ـ[تهذيب الكمال في أسماء الرجال]ـ
المؤلف: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي الْمِزِّيّ (المتوفى: ٧٤٢هـ)
المحقق: د. بشار عواد معروف
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الأولى، ١٤٠٠ - ١٩٨٠
عدد الأجزاء: ٣٥
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي وضمن خدمة التراجم]
1 / 1
المجلد الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا في الإمام المزي
١- ووجدت بدمشق من أهل العلم الإمام المقدم والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم أبا الحجاج المزي، بحر العلم الزاخر، وحبره القائل من رآه: كم ترك الاوائل للاواخر.
ابن سيد الناس اليعُمَري ت (٧٣٤)
٢- كان خاتمة الحفاظ، وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتنا، وموضح مشكلاتنا، ما رأيت أحدًا في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي.
الذهبي ت (٧٤٨)
٣- ولم أَرَ في أشياخي بعد شيخنا أثير الدين في العربية مثله.
الصلاح الصفدي ت (٧٦٤)
٤- هو إمام المحدثين، والله لو عاش الدارقطني، لاستحيى أن يدرس مكانه.
تقي الدين السبكي ت (٧٥٦)
٥- شيخنا وأستاذنا وقدوتنا الشيخ جمال الدين أبو الحجاج المزي، حافظ زماننا، حامل راية السنة والجماعة، والقائم بأعباء هذه الصناعة، والمتدرع جلباب الطاعة، إمام الحفاظ كلمة لا يجحدونها، وشهادة على أنفسهم يؤدونها، ورتبة لو نشر أكابر الأعداء، لكانوا يودونها، واحد عصره بالإجماع، وشيخ زمانه الذي تصغي لما يقول الأسماع.
التاج، السبكي ت (٧٧١)
1 / 5
قالوا في التهذيب
١- وصنف كتاب"تهذيب الكمال"في أربعة عشر مجلدا، كسف به الكتب المتقدمة في هذا الشأن، وسارت به الركبان، واشتهر في حياته.
الصلاح الصفدي
٢- وصَنَّف"تهذيب الكمال"المجمع على أنه لم يصنف مثله.
التاج السبكي.
٣- كتاب عظيم الفوائد، جم الفرائد، لم يصنف في نوعه مثله، لأن مؤلفه أبدع فيما وضع، ونهج للناس منهجا لم يشرع.
علاء الدين مغلطاي ت (٧٦٣)
٤- أتى فيه بكل نفيسة، وبالغ ولم يأل في استيفاء شيوخ الشخص ورواته، وغرائبه وموافقاته، وعدالته وجرحاته، ومناقبه وهناته، وعُمَره ووفاته، فبقي حسرةً على من لم يحصله من الفضلاء، ولهفةً على من أعوزه الامكان.
الإمام الذهبي
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛
فهذه دراسة تناولت فيها سيرة المزي، وكتابه"تهذيب الكمال"، وجعلتها في أربعة فصول:
خصصت الفصل الاول لحياة المزي ومكانته العلمية.
والفصل الثاني لمنهج كتابه تهذيب الكمال ومنزلته بين الكتب التي من بابته، وبيان تفضيله على جميع الكتب السابقة واللاحقة في فنه.
والفصل الثالث لعناية العلماء بهذا الكتاب النفيس استدراكا واختصارا.
والفصل الرابع وصفت فيه المنهج الذي اتبعته في تحقيق هذا الكتاب.
ثم ختمت الدراسة بوصف النسخ المعتمدة، وطباق السماعات التي عليها
1 / 7
الفصل الاول
حياة المزي ومكانته العلمية
مصادر ترجمته:
تناول المزي جملة كبيرة من المؤرخين، فترجموا له تراجم تختلف في طولها وقصرها ونوعية المعلومات التي تقدمها ونجد بينهم رفاقا له في طلب العلم، وتلامذة، وتلامذة لتلامذته وهلم جرا إلى عصور متأخرة.
وقد ترجم له من معاصريه: ابن سيد الناس اليعُمَري (ت ٧٣٤) (١)، وعلم الدين البرزالي (ت ٧٣٩) (٢)، وشمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨) (٣)، وابن الوردي (ت ٧٤٩) (٤)، وصلاح الدين الصفدي (ت ٧٦٤) (٥)، وابن شاكر الكتبي (ت ٧٦٤) (٦)، وشمس الدين الحسيني (ت ٧٦٥) (٧)، وتاج الدين السبكي (ت ٧٧١) (٨)، وجمال
_________
(١) أجوبة ابن سيد الناس (نسختي المصورة عن الاسكوريال رقم ١١٦٠) .
(٢) في معجم شيوخه، ولم يصل إلينا، ولكن وصلت بعض ترجمة المزي منه في المصادر الاخرى منقولة عنه.
(٣) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٨، وذيل دول الاسلام: ٢ / ٢٤٧، ومعجم شيوخه الكبير: ٢ / الورقة: ٩٠ من نسختي المصورة، والمعجم المختص بمحدثي العصر، ولم تصل إلينا ترجمته فيه ولكن نقلت منها المصادر الاخرى مثل طبقات السبكي والدرر لابن حجر وغيرهما.
(٤) تتمة المختصر: ٢ / ٣٣٢.
(٥) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٨ ١٢٣ من نسختي المصورة وهي بخطه.
(٦) عيون التواريخ، الورقة: ٥٩ (كيمبرج: ٢٩٢٣)، وهو بخطه، وفوات الوفيات: ٤ / ٣٥٣ من طبعة العالم إحسان عباس.
(٧) الذيل على ذيل العبر: ٢٢٩.
(٨) طبقات الشافعية الكبرى: ١٠ / ٣٩٥.
1 / 9
الدين الاسنوي (ت ٧٧٢) (١) وتقي الدين ابن رافع السلامي (ت ٧٧٤) (٢)، وصهره عماد الدين ابن كثير (ت ٧٧٤) (٣) .
وترجم له بعد عصره جماعة، منهم: ابن ناصر الدين الدمشقي (ت ٨٤٢) (٤)، والمقريزي (ت ٨٤٥) (٥)، وابن قاضي شهبة (ت ٨٥١) (٦)، وابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢) (٧)، وابن تغري بردي (ت ٨٧٤) (٨)، والسخاوي (ت ٩٠٢) (٩)، والسيوطي (ت ٩١١) (١٠)، والنعيمي (ت ٩٢٧) (١١)، وابن طولون (ت ٩٥٣) (١٢)، وطاش كبري زادة (ت ٩٦٧) (١٣)، وابن هداية الله المصنف (ت ١٠١٤) (١٤)، وابن العماد الحنبلي (ت ١٠٨٩) (١٥)، والشوكاني (ت ١٢٥٠) (١٦)، وغيرهم (١٧) .
_________
(١) طبقات الشافعية: ٢ / ٤٦٤.
(٢) الوفيات، الورقة: ٤٤ (الترجمة: ٢٨٦ بتحقيق تلميذنا الفاضل صالح مهدي عباس، ولم تطبع بعد) .
(٣) البداية والنهاية: ١٤ / ١٩١ وفي غير موضع قبل هذه الصفحة.
(٤) التبيان، الورقة: ١٦٦، والرد الوافر: ١٢٨.
(٥) السلوك: ج ٢ ق ٣ ص: ٦١٦.
(٦) التاريخ، الورقة: ٣٦ (وفيات ٧٤٢ من نسخة باريس: ١٣٩٨)، وطبقات الشافعية، الورقة: ١١٩ (دار الكتب: ١٥٦٨ تاريخ) .
(٧) الدرر الكامنة: ٥ / ٢٣٣.
(٨) المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، الورقة: ٨٥٧ (أحمد الثالث: ٣٠١٨)، والنجوم: ١٠ / ٧٦ (٧٩)
(٩) وجيز الكلام في ذيل دول الاسلام: وفيات ٧٤٢ من نسخة كوبرلي: ١١٨٩ وله ذكر في غير صع من كتابة: الاعلان بالتوبيخ.
(١٠) طبقات الحفاظ: ٥١٧.
(١١) الدارس: ١ / ٣٥.
(١٢) القلائد الجوهرية: ٣٢٩، والمعزة فيما قيل في المزة: ١٠.
(١٣) مفتاح السعادة: ٢ / ٣٦٧.
(١٤) طبقات الشافعية: ٢٢٧.
(١٥) شذرات الذهب: ٦ / ١٣٦.
(١٦) البدر الطالع: ٢ / ٣٥٣.
(١٧) وله ذكر أو ترجمة في كل من: كشف الظنون لحاجي خليفة: ١ / ١١٦، ٢ / ١٥٠٩، ١٥١٠، ١٦٩، وإيضاح المكنون: ١ / ٢٤١، وهدية العارفين للبغدادي: ٢ / ٥٥٦، وإعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء للطباخ: ٤ / ٥٧٩، والرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني: ١٦٨، ٢٠٨، وفهرس الفهارس لمحمد عبد الحي الكتاني: ١ / ١٠٧، والاعلام للعلامة المرحوم خير الدين الزركلي: ٩ / ٣١٣، وتاريخ الادب لبروكلمان: ٢ / ٧٥، والملحق: ٢ / ٦٦ (بالالمانية)، ومقدمة تحفة الاشراف وغيرها.
1 / 10
وغالبا ما ينقل هؤلاء الواحد عن الآخر، لكننا وجدنا أكثر التراجم أصالة ومنفعة هي تراجم الذهبي والصفدي والسبكي وابن كثير وابن حجر لما حوته من معلومات متنوعة.
بيئة المزي ونشأته:
كانت بلاد الشام منذ النصف الثاني من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) تعيش في ظل دولة المماليك البحرية التي قامت على أنقاض الدولة الايوبية، وأصبحت من أعظم مراكز القوى في العالم الاسلامي بسبب قدرتها على إيقاف التقدم المغولي المدمر الذي قضى على الخلافة العباسية ببغداد.
وعاشت دمشق آنذاك وهي تشهد عز الاسلام..عيدت أولا في سنة (٦٥٨) على خير عظيم حينما تمكنت جيوشها من هزيمة جيوش المغول المدمرة شر هزيمة في "عين جالوت"غربي بيسان من أرض فلسطين الصابرة، وتنظيف البلاد الشامية من فلولهم المدحورة..
وعيدت ثانية في السنة نفسها بولاية مجاهد عظيم عليها هو السلطان العظيم الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس"٦٥٨ ٦٧٦"، ثم شهدته بعد ذلك الانتصار وهو يكيل الضربات القوية للعدو الصليبي المخذول يحاول إزاحته من أرض العَرُوبَة والاسلام حتى أوهنه وأوهاه وأنحله وأضناه، وحرر القسم الاكبر من السواحل الشامية التي كانت بأيدي الغزاة الصليبيين (١)، فأعاد بذلك سيرة السلطان المجاهد صلاح الدين يوسف الايوبي ﵁ في الجهاد.
ثم شهدت هذه المدينة المجاهدة في سنة (٦٩٠) تحرير آخر
_________
(١) تاريخ الاسلام للذهبي، الورقة ٣٥ ٣٤ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
1 / 11
شبر من أرض العَرُوبَة والاسلام وتنظيف البلاد من الغزاة الصليبيين على عهد السلطان الملك الاشرف صلاح الدين خليل (١)
..سمعت المنادي في مستهل ربيع الاول من السنة ينادي للغزاة في سبيل الله إلى عكا، وشاهدت المطوعة، وفيهم المحدثون والفقهاء والمدرسون والصالحون ينضمون إلى الجيش. قال الإمام الذهبي: وكان يومها شابا في السابعة عشرة من عُمَره: وجاءت إليه جيوش الشام بأسرها، وأمم لا يحصيهم إلا الله تعالى من المطوعة، فكانوا قدرالجندمرات" (٢) ..شاهدت هؤلاء الأئمة الاعلام، وهم يجرون عجل المنجنيقات يرتلون القرآن الكريم، ويقرؤون أحاديث الجهاد، يتجهون نحو تحرير الارض، وصيانة حرمة الاسلام، فلم يلبث أن فتح المسلمون عكا في يوم واحد، كان يوم الجمعة المبارك السابع عشر من جمادى الاولى من السنة. وتوالت الانتصارات بعد فتح عكا، ففتحت صور، وصيدا، وبيروت، وغيرها حتى حررت جميع السواحل الشامية ونظفت من دنس الغزاة (٣) .
وكانت بلاد الشام إلى جانب ذلك قد أصبحت مركزا كبيرا من مراكز الحركة الفكرية، فيها من المدارس العامرة، ودور القرآن والحديث العدد الكثير، عمل على تعميرها حكامها وبعض المياسير من أهلها، ونشطت في عهد الشهيد نور الدين محمود بن زنكي. وكانت العناية بالدراسات الدينية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وما يتصل بها
_________
(١) قال الذهبي في ترجمة من تاريخ الاسلام: جلس على تخت الملك سنة تسع وثماني وست مئة، واستفتح الملك بالجهاد فسار ونازل عكا وافتتحها ونظف الشام كله من الفرنج..ولو طالت حياته لاخذ العراق وغيرها، فإنه كان بطلا شجاعا مقداما مهيبا عالي الهمة يملا العين ويرجف القلب رأيته مرات.." (الورقة: ٢٢٥ من مجلد أيا صوفيا ذي الرقم ٣٠١٤) .
(٢) تاريخ الاسلام للذهبي، الورقة: ٢٠٥ من المجلد المذكور.
(٣) البرزالي: المقتفي لتاريخ أبي شامة (حوادث سنة ٦٩٠) من نسختي المصورة عن أحمد الثالث ٢٩٥١، وتاريخ الاسلام للذهبي: ٢٠٧ ٢٠٥ من المجلد المذكور، والبداية لابن كثير: ١٣ / ٣٢١.
1 / 12
من علوم العربية هي السمة البارزة لهذا العصر، فأنتجت هذه الحركة أكلها في القرن الثامن الهجري الذي تبوأت فيه دمشق السيادة العلمية والفكرية في جميع أنحاء العالم الاسلامي بما أنتجت من تراث فكري، وأنجبت من علماء بارزين في هذه الميادين.
لكننا لاحظنا، ونحن نرصد هذه الحركة تباينا شديدا في قيمة الانتاج الفكري لهذه الفترة وأصالته، فوجدنا الكثير من المؤلفات الهزيلة التي لم تكن غير تكرار لما هو موجود في بطون الكتب السابقة، ثم وجدنا بعض المؤلفات التي امتازت بالاصالة والابداع والمناهج العلمية المتميزة. وقد زاد من صعوبة الابداع وخاصة في العلوم الدينية أن الواحد من العلماء كان يجد أمامه تراثا ضخما ممتدا عبر القرون في الموضوع الذي يوم التأليف فيه، وهو في وضعه هذا يختلف عن المؤلفين الاولين الذي لم يجابهوا مثل هذا التراث الغزير (١) .
في هذه البيئة السياسية والفكرية ولد الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الزكي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بْن علي بن عبد الملك بن علي بن أَبي الزهر الكلبي القضاعي المزي في ليلة العاشر من شهر ربيع الآخر سنة (٦٥٤) بظاهر حلب (٢) من عائلة عربية الاصل ترجع إلى قبيلة كلب القضاعية التي استوطنت البلاد الشامية منذ فترة مبكرة.
وانتقل جماد الدين إلى دمشق، فسكن المزة (٣) القرية الكبيرة الغناء الواقعة في وسط بساتين دمشق جنوب غربيها والظاهر أن الكلبيين كانوا يكونون القسم الاكبر من سكانها منذ العهود الاسلامية الاولى،
_________
(١) ينظر كتابنا: الذهبي ومنهجه: ٧٥ فما بعد (القاهرة: ١٩٧٦) .
(٢) الذهبي في معجم الشيوخ: ٢ / الورقة: ٩٠، وعيون التواريخ لابن شاكر، الورقة: ٥٩، وأعيان العصر للصفدي، الورقة: ١٢٣، وطبقات السبكي: ١٠ / ٤٠٠.
(٣) انظر عن"المزة"معجم البلدان لياقوت: ٤ / ٥٣٢.
1 / 13
لذلك قيل فيها: مزة كلب"، قال الشاعرابن قيس الرَّقِّيّات:
حبذا ليلتي بمزة كلب • غال عني بها الكوانين غول
وبها على ما يروى قبر الصحابي دحية بن خليفة بن فروة الكلبي القضاعي (١)، فلعل هذا هو الذي يفسر اختيار هذا المكان من دمشق سكنا له، إذ ربما كان له فيها بعض الاقرباء. ولا نعلم فيما إذا كان قدم دمشق وحده أم صحبة عائلته حيث تسكت المصادر عن ذلك، كما لا نعلم متى كان قدومه، ولكن يظهر أنه قدم منذ فترة مبكرة لقول تلميذه ورفيقه الإمام الذهبي: نشأ بالمزة" (٢) .
وقرأ يوسف القرآن الكريم وشيئا من الفقه، لكن عائلته على ما يظهر، لم تعتن به العناية الكافية ولم توجهه إلى طلب الحديث منذ فترة مبكرة كما فعلت عائلة رفيقه وتلميذه الإمام الذهبي (٣)، ويبدو أنها لم تكن عائلة مشهورة بالعلم والطلب، ولم يكن والده من العلماء المشهورين (٤)، فلم يكن له إلا أن يطلبه هو بنفسه حينما بلغ الحادية والعشرين من عُمَره، فكان أول سماعه في سنة (٦٧٥) (٥)، فلو كان له من يعتني به، ويستجيز له، ويوجهه، لادرك إسنادا عاليا، قال تلميذه
_________
(١) معجم البلدان: ٤ / ٥٣٢، وراجع الاسيتعاب لابن عَبد الْبَرِّ: ٢ / ٤٦١.
(٢) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٨، ومعجم الشيوخ: ٢ / الورقة: ٩٠.
(٣) انظر كتابنا: الذهبي ومنهجه: ٨١ ٧٨. ووجدنا أخا الذهبي من الرضاعة أبا الحسن بن العطار"٧٢٤ ٦٥٤"يستجيز للذهبي جملة من مشايخ عصره في سنة مولده"الدرر لابن حجر: ٣ / ٤٢٦) . وقد انتفع الذهبي بهذه الاجازة انتفاعا شديدا (وراجع معجم شيوخ الذهبي: م ١ / الورقة: ٨ و١٢ و١٨ و٨٠ و٩٠ م ٢ / الورقة: ٦ و٣١ و٥٩ و٦٠ و٨٧ و٨٨ وغيرها) .
(٤) وصف الذهبي في معجم شيوخه والد المزي بأنه"الشيخ العالم المقرئ زكي الدين عبد الرحمن"، لكن الكتب المعنية بالقراء لم تترجم له! (٥) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٣، وتذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٨، ومعجم الشيوخ: ٢ / الورقة: ٩٠. وذكر الشيخ عبد الصمد شرف الدين في مقدمة تحفة الاشراف أن ذلك كان سنة ٦٧٤ (١ / ٢٢ من المقدمة) ولم نجد لذلك أصلا.
1 / 14
الصلاح الصفدي: ولم يتهيأ له السماع من ابن عبد الدائم (١) ولا الكرماني (٢) ولا ابن أَبي اليسر (٣) ونحوهم، ولا أجازوا له، مع إمكان أن تكون له إجازة المرسي (٤) والمنذري (٥) وخطيب مردا (٦) واليلداني (٧) وتلك الحلبة" (٨)، وَقَال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ولو كان له من يسمعه صغيرا، لسمع من ابن عبد الدائم والكرماني وغيرهما، ولكنه طلب بنفسه في أول سنه خمس وسبعين"٩.
سماعه وشيوخه
كان أول سماعه الحديث على الشيخ المسند المعمر زين الدين أبي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن أَبي الخير سلامة بن إبراهيم الدمشقي الحداد الحنبلي (٦٧٨ ٥٨٩)، فسمع أول ما سمع كتاب"الحلية"لابي نعيم ثم أكثر عنه (١٠)، قال إمام المؤرخين شمس الدين الذهبي: وقرأ عليه المزي شيخنا شيئا كثيرا، وسمع منه"حلية الاولياء"، ورثاه بابيات بعد موته، وسألته عنه، فقال: شيخ جليل متيقظ، عُمَر، وتفرد بالرواية عن كثير من مشايخه، وحدث سنين كثيرة وسمعنا منه الكثير، وكان سهلا
_________
(١) زين الدين أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الدائم بن نعمة المقدسي الحنبلي مسند الشام"٦٦٨ ٥٧٥" (تاريخ الاسلام في سنة وفاته أيا صوفيا ٣٠١٣، والعبر: ٥ / ٢٨٨)
(٢) بدر الدين عُمَر بْن مُحَمَّد بْن أَبي سعد التاجر"٦٦٨ ٥٧٠.
(٣) مسند الشام تقي الدين أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أَبي اليسر شاكر التنوخي"٦٧٢ ٥٨٩" (تاريخ الاسلام، الورقة: ٩ (أيا صوفيا: ٣٠١٤)، والعبر: ٥ / ٢٩٩) .
(٤) شرف الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن علي بْن مُحَمَّد بْن عَبد الله السلمي الاندلسي"٦٥٥ ٥٧٠" (تاريخ الاسلام في سنة وفاته أيا صوفيا: ٣٠١٣) .
(٥) زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عَبد الله المنذري الشامي الاصل المِصْرِي"٦٥٦ ٥٨١" (ينظر كتابنا: المنذري وكتابه التكملة، النجف: ١٩٦٨) .
(٦) أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إسماعيل بن أحمد المقدسي الحنبلي"٦٥٦ ٥٦٦" (تاريخ الاسلام، وفيات: ٦٥٦ من مجلد أيا صوفيا: ٣٠١٣) .
(٧) تقي الدين عبد الرحمن بن المنعم بن عبد الرحمن، من أهل يلدان (المعروفة اليوم بيدا في دمشق جنوب شرقيها""٦٥٥ ٥٦٨" (تاريخ الاسلام، وفيات سنة ٦٥٥ من مجلد أيا صوفيا: ٣٠١٣) .
(٨) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٣.
(٩) الدر لابن حجر: ٥ / ٢٣٣.
(١٠) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٨، والدرر: ٥ / ٢٣٣.
1 / 15
في الرواية" (١) . وكانت لأحمد هذا مكانة علمية رفيعة دللت عليها رواية جملة من ثقات العلماء عنه منهم: شرف الدين الدمياطي، وابن الحلوانية، وابن الخباز، وابن العطار، وشيخ الاسلام التقي ابن تيمية، والبرزالي، وطائفة سواهم، بل سمع منه ابن الحاجب الاميني بعرفات سنة (٦٢٠) وخرج له في معجمه (٢)، وعاش ابن سلامة هذا بعد ابن الحاجب ثمانية وأربعين عاما (٣) .
ومنذ ذلك الحين اتجهت همة المزي إلى سماع الحديث، فسمع من الجم الغفير، سمع عليهم الكتب الكبار الامهات مثل: الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، والمعجم الكبير لابي القاسم الطبراني، وتاريخ مدينة السلام بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب النسب للزبير بن بكار، والسيرة لابن هشام، وموطأ الإمام مالك، والسنن الكبير، ودلائل النبوة كلاهما للبيهقي بحيث قال تلميذه الصلاح الصفدي: وأشياء يطول ذكرها، ومن الاجزاء ألوفا" (٤) . وذكروا أن مشيخته نحو الالف شيخ (٥)، أورد الذهبي الكثير منهم في تاريخ الاسلام، وكان يسأله عن أحوال بعضهم (٦) .
وتجول المزي في المدن الشامية، فسمع بالقدس الشريف، وحمص، وحماة، وبعلبك، وحج وسمع بالحرمين الشريفين. ورحل إلى البلاد المِصْرِية، فسمع بالقاهرة، والاسكندرية، وبلبيس، وكانت رحلته إليها في سنة (٦٨٣) (٧)، وكان بالاسكندرية في سنة (٦٨٤) حيث قرأ فيها على صدر الدين سحنون المتوفى سنة (٦٩٥) (٨) .
_________
(١) تاريخ الاسلام، الورقة: ٥٩ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٢) معجم شيوخ الذهبي: ١ / الورقة: ٦، وتاريخ الاسلام، الورقة: ٥٩ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٣) لان ابن الحاجب توفي سنة ٦٣٠ كما هو معروف، وتوفي ابن سلامة سنة ٦٧٨.
(٤) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٣.
(٥) نفسه، والدرر: ٥ / ٢٣٣.
(٦) انظر مقلا تاريخ الاسلام، الورقة: ١٦١، ١٦٢، ١٤٧ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٧) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٨.
(٨) تاريخ الاسلام، الورقة: ٢٤٧ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
1 / 16
وقد ذكر الصلاح الصفدي طبقات شيوخه على الاختصار، وذكر أبرزهم، فقال: سمع من أصحاب ابن طَبَرْزَذَ، والكندي، وابن الحرستاني وحنبل، ثم ابن ملاعب، والرهاوي، وابن البناء، ثم ابن أَبي لقمة، وابن البن، وابن مكرم والقزويني. ثم ابن اللتي، وابن صباح، وابن الزبيدي.
وأعلى ما سمع بإجازة ابن كليب وابن بوش، والجمال، وخليل بن بدر، والبوصيري وأمثالهم. ثم المؤيد الطوسي، وزاهر الثقفي، وعبد المعز الهروي.
وسمع أبا العباس ابن سلامة، وابْنُ أَبي عُمَر، وابْنُ عَلانَ، والشيخ محيي الدين النووي، والزواوي، والكمال عَبد الرحيم، والعز الحراني، وابن الدرجي، والقاسم الاربلي، وابن الصابوني، والرشيد العامري، ومحمد بن القواس، والفخر ابن البخاري، وزينب، وابن شيبان، ومحمد بن محمد بن مناقب، وإسماعيل بن العسقلاني، والمجد ابن الخليلي، والعماد ابن الشيرازي، والمحيي ابن عصرون، وأبا بكر بن الانماطي، والصفي خليلا، وغازيا الحلاوي، والقطب ابن القسطلاني وطبقتهم. والدمياطي شرف الدين، والفاروثي، واليونيني، وابن بلبان، والشريشي، وابن دقيق العيد، والظاهري، والتقي الاسعردي وطبقتهم. وتنازل إلى طبقة سعد الدين الحارثي (١) وابن نفيس (٢) " (٣) .
وعني المزي بدراسة العربية، فأتقنها لغة وتصريفا، ففاق أقرانه في ذلك بحيث قال الصلاح الصفدي فيه: ولم أر في أشياخي بعد
_________
(١) قاضي القضاة سعد الدين أبو محمد مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي العراقي المِصْرِي الحنبلي"٧١١ ٦٥٢" (تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٥) .
(٢) أبو الحسن علي بن مسعود ابن نفيس الموصلي"٧٠٤ ٦٣٦" (ذيل العبر للذهبي: ٢٦، والذيل لابن رجب: ٢ / ٣٥١) .
(٣) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤ ١٢٣.
1 / 17
شيخنا أثير الدين في العربية مثله خصوصا في التصريف واللغة" (١)
وهذه شهادة عالم عارف نستبين قدرها إذا عرفنا مكانة أثير الدين أبي حيان الغرناطي أعظم علماء العربية في القرن الثامن الهجري غير مدافع (٢) . وقد عرف أبو حيان نفسه قدر المزي، فأغدق الثناء عليه، وعلى علمه الجم (٣) .
تأثره بالفكر السلفي
اتصل المزي اتصالا وثيقا بثلاثة من شيوخ ذلك العصر، وترافق معهم، وهم: شيخ الاسلام تقي الدين أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الحليم المعروف بابن تيمية الحراني (٧٢٨ ٦٦١)، والمؤرخ المحدث علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي (٦٦٥ ٧٣٩)، ومؤرخ الاسلام شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن أحمد الذهبي (٧٤٨ ٦٧٣) (٤)، فكان المزي أكبرهم سنا، وكان بعضهم يقرأ على بعض فهم شيوخ وأقران في الوقت نفسه، وقرأ الثلاثة على المزي واعترفوا بأستاذيته، وافتخروا بها.
والظاهر أن المزي اتصل في شبيبته ببعض المتصوفة الغلاة. وكان التصوف منتشرا في البلاد انتشارا واسعا، وظهر بينهم كثير من المشعوذين الذين أثروا في العوام أيما تأثير (٥) وانجذب إليهم بعض الشباب، فاغتر المزي في شبيبته بهم، فصحب الشاعر (٦) الصوفي
_________
(١) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٧.
(٢) راجع عنه كتاب العالمة الفاضلة الدكتورة خديجة الحديثي (أبو حيان النحوي بغداد: ١٩٦٧) .
(٣) وذلك في كتابه"القطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي"، انظر كتابنا: الذهبي: ٣٢٩، والدرر: ٥ / ٢٣٤.
(٤) راجع كتابنا: الذهبي: ٩٩.
(٥) راجع مثلا تاريخ الاسلام، الورقة: ٧٥ (أيا صوفيا: ٣٠٠٧)، والورقة: ٣٦ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٦) له ديوان شعر مشهور منه نسخة بدار الكتب الظاهرية بدمشق، وأخرى في الاسكوريال منها مصورة في خزانة كتب المجمع العلمي العراقي. وَقَال الذهبي: وله شعر في الطبقة العليا والذروة القصوى لكنه مشوب بالاتحاد في كثير من الاوقات"وأورد طائفة منه في تاريخ الاسلام (الورقة: ١٨٨ ١٨٦ أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
1 / 18
عفيف الدين أبا الربيع سُلَيْمان بن علي التلمساني (١) (٦٩٠ ٦١٠) .
وكان العفيف هذا من غلاة الاتحادية القائلين بوحدة الوجود (٢) على قاعدة ابن عربي، ونسبه جماعة إلى رقة الدين، وتعاطي المحرمات (٣)، فلما تبين للمزي انحلال العفيف واتحاده، تبرأ منه، وحط عليه (٤) .
ولعل مفارقته للعفيف التلمساني واضرابه كانت نتيجة تأثره بالإمام تقي الدين ابن تيمية الذي أعجب به المزي أيما إعجاب، فكان أكثر رفاقه صلة ومحبة بالشيخ الإمام (٥) .
وكانت شخصية الإمام ابن تيمية قد اكتملت في نهاية القرن السابع الهجري، فأصبح مجتهدا له آراؤه الخاصة التي تقوم في أصلها على اتباع آثار السلف، ونتقية الدين من الخرافات، والمعتقدات الطارئة عليه، وابتدأ منذ سنة ٦٩٨ يدخل في خصومات عقائدية حادة مع علماء عصره المخالفين له (٦)، ويقيم الحدود بنفسه (٧)، ويحارب المشعوذين (٨)، ويمنع من تقديم النذور لغير الله (٩)، ويريق الخمور (١٠)، ونحو ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عَنِ المنكر.
وظهرت شخصية الإمام ابن تيمية السياسية في الحرب الغازانية سنة (٦٩٩) بعد هزيمة الجيوش المِصْرِية والشامية أمام غزو غازان سلطان المغول في موقعة الخزندار، فقد قابل ابن تيمية غازان وكلمه
_________
(١) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٩، وأعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤.
(٢) تاريخ الاسلام، الورقة: ١٨٦ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٣) البداية والنهاية: ١٣ / ٣٢٦، وشذرات الذهب: ٥ / ٤١٢، وتاريخ الاسلام، الورقة: ١٨٦ (أيا صوفيا: ٣٠١٤) .
(٤) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٩.
(٥) انظر أقوال المزي في ابن تيمية بكتاب"الرد الوافر"لابن ناصر الدين"١٣٠ ١٢٨.
(٦) البداية: ١٤ / ٢٧، والدرر: ٥ / ٢٣٤.
(٧) البداية: ١٤ / ١٩.
(٨) الوافي بالوفيات: ٥ / ١٨، والبداية: ١٤ / ٣٣ وفتواه في الصوفية والفقراء (القاهرة: ١٣٤٨ هـ)
(٩) البداية: ١٤ / ٣٤.
(١٠) نفسه: ١٤ / ١١.
1 / 19
كلاما شديدا، وعمل على ثبات البلاد حينما خلت من الجيوش القادرة على رد الغزو المدمر، فكان يدور على الاسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهادو الرباط، وأقام معسكرات التدريب في كل مكان ومنها المدارس، فكان المحدثون والفقهاء يتعلمون الرمي، ويستعدون لقتال العدو (١) . ثم سافر إلى مصر يحض الدولة والناس على القتال حتى تمكن في سنة (٧٠٢) من رص الصفوف، وتوحيد القلوب، وتحديد الهدف مما أدى إلى الانتصار الكبير في وقعة"شقحب"التي شارك الإمام ابن تيمية في القتال فيها يصحبه طلبة العلم من المحدثين والفقهاء والصالحين، وكان يحرض الجيش والمطوعة في ساحة القتال على البلاء ويبشرهم بالنصر (٢)، قال ابن كثير: وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو"إنكم منصورون عليهم هذه المرة، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا" (٣) .
أقول: إن هذه الشخصية العظيمة جذبت المزي إليها، فأعجب المزي بابن تيمية الاعجاب كله، وترافق معه طيلة حياته، قال الذهبي: ترافق هو وابن تيمية كثيرا في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرر طريقة السلف في السنة، ويعضد ذلك بمباحث نظرية وقواعد كلامية..وما وراء ذلك بحمدالله إلا حسن إسلام وحسبة لله مع أني لم أعلمه ألف في ذلك شيئا" (٤)، وَقَال التاج السبكي: واعلم أن هذه الرفقة أعني المزي والذهبي والبرزالي وكثيرا من أتباعهم، أضر بهم أبو العباس ابن تيمية إضرارا بينا،
_________
(١) انظر تاريخ الاسلام، الورقة: ٣٣٤ فما بعد (أيا صوفيا: ٣٠١٤)، والبداية: ١٤ / ١٢ ٦.
(٢) أعيان العصر: ٨ / ٧ ١ من نسختي المصورة عن أيا صوفيا: ٢٩٦٨.
(٣) البداية: ١٤ / ٢٦.
(٤) تذكرة الحفاظ: ٤ / ١٤٩٩.
1 / 20
وحملهم من عظائم الامور أمرا ليس هينا، وجرهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم، وأوقعهم في دكادك من نار المرجو من الله أن يتجاوزها لهم ولاصحابهم" (١) . وهذه النصوص تشير إلى قدم هذه العلاقة التي ابتدأت منذ أيام الطلب، وأخذت تنمو على مرور الايام، فتزيد متانة وصلابة.
وهكذا تكون فكر الحافظ المزي، فهو شافعي المذهب، سلفي العقيدة، أخلص الاخلاص كله لرفيقه ابن تيمية وآرائه التجديدية، وجعله مثله الاعلى، ويظهر ذلك جليا من دراسة سيرتيهما، فقد أوذي المزي بسبب ذلك: أوذي مرة، واختفى مدة من أجل تحديثه بتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (٢)، وأوذي ثانية في رجب من سنة (٧٠٥) حينما تناظر ابن تيمية مع الاشاعرة عند نائب السلطنة الافرم، وقرئت عقيدة ابن تيمية الواسطية وحصل البحث في أماكن منها، ثم اضطر المناظرون له إلى قبولها بعد أن أفحمهم شيخ الاسلام، فقعد المزي عندئذ تحت قبة النسر بجامع دمشق، وقرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب"أفعال العباد"للامام البخاري بعد قراءة ميعاد البخاري، فغضب بعض الفقهاء الشافعية الحاضرون، وَقَالوا: نحن المقصودون بذلك، وشكوه إلى القاضي الشافعي نجم الدين أحمد بن صصرى، وكان عدوا للشيخ ابن تيمية، فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين ذلك
_________
(١) الطبقات: ١٠ / ٤٠٠ وهذا الكلام جزء من كلامه في هؤلاء الرفقة من الأئمة الاعلام ولاسيما في شيخه الذهبي بحيث قال فيه: والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه" (الطبقات: ٢ / ١٤ ١٣)، قال ذلك وشحن كتابه الطبقات من كتب الذهبي إذ كان معتمده الرئيس!
وكان السبكي أشعريا جلدا بحيث قال فيه عز الدين الكناني"ت ٨١٩": هو رجل قليل الادب، عديم الانصاف جاهل بأهل السنة ورتبهم" (الاعلان للسخاوي: ٤٦٩ فما بعد، ومعجم الشافعية لابن عبد الهادي، الورقة: ٤٨ ٤٧ (الظاهرية)، وانظر مناقشتنا لاقواله في الفصل الذي كتبناه عن"النقد"عند الذهبي من كتابنا: الذهبي ومنهجه، وخاصة: ٤٥٨ فما بعد) .
(٢) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤.
1 / 21
فتألم لحبس المزي، وذهب إلى السجن، وأخرجه بنفسه، ولم يحفل بالسلطة، وراح إلى القصر، فوجد القاضي ابن صصري هناك، فتقاولا بسبب المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، وكان الافرم غائبا عن دمشق ذلك اليوم، فأمر نائبه بإعادته تطييبا لقلب القاضي، فحبسه عنده أياما ثم أطلقه (١) .
وكان ابن تيمية كثير الاعتماد على المزي وعلمه ومعرفته، فحينما خرج من سجنه بمصر سنة (٧٠٩) بعد عودة السلطان محمد بن قلاوون وجلس في القاهرة ينشر علمه، احتاج إلى بعض كتبه التي بالشام، فكتب إلى أهله كتابا يطلب جملة من كتب العلم التي له، وطلب منهم أن يستعينوا على ذلك، بجمال الدين المزي"فانه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها" (٢) . وحينما ولي المزي أكبر دار حديث بدمشق هي دار الحديث الاشرفية سنة (٧١٨) فرح ابن تيمية فرحا عظيما بذلك وَقَال: لم يل هذه المدرسة من حين بنائها إلى الآن أحق بشرط الواقف منه" (٣) . وقد وليها عظماء العلماء المحدثين منهم: تقي الدين ابن الصلاح (٦٤٣ ٥٧٧)، وابن الحرستاني (٦٦٢ ٥٧٧)، وأبو شامة (٦٦٥ ٥٩٩) ومحيي الدين النووي (٦٧٦ ٦٣١) وغيرهم، فقد اعتمد ابن تيمية قول الواقف: ان اجتمع من فيه الرواية ومن فيه الدراية قدم من فيه الرواية" (٤) ففضله ابن تيمية بذلك على جميع المتقدمين في الرواية.
ولما توفي شيخ الاسلام ابن تيمية مسجونا بقلعة دمشق، لم يسمح لاحد بالدخول أول الامر إلا لخواص أصحابه، قال ابن كثير:
_________
(١) البداية: ١٤ / ٣٧، وأعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤، والدرر: ٥ / ٢٣٤، والدارس للنعيمي: ١ / ٩٨ ٩٧، والبدر الطالع: ١٤ / ٦٦، ٢ / ٣٥٣.
(٢) البداية: ١٤ / ٥٥ ٥٤.
(٣) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤، والدارس: ١ / ٣٥.
(٤) أعيان العصر: ١٢ / الورقة: ١٢٤.
1 / 22
"وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي ﵀ وكشفت عن وجه الشيخ، ونظرت إليه وقبلته..ثم شرعوا في غسل الشيخ، وخرجت إلى مسجد هناك، ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي، وجماعة من كبار الصالحين الاخيار أهل العلم، والايمان" (١) . ولما مات المزي بعد ذلك بأربعة عشر عاما، دفن غربي قبر رفيقه وصديقه ابن تيمية (٢) ﵄.
وظل الشيخ بعد وفاة ابن تيمية مؤمنا بهذه العقيدة، ولم يفتر عن دوام الايمان بها، فنجده مدافعا منافحا عن عقيدة الاسلام الصحيحة محاربا الخارجين المارقين عنها، فيشاهده الناس فِي ذي القعدة من سنة (٧٤١) وهو في الثامنة والثمانين من العُمَر يحضر المجلس بدار العدل مع رفيقه في العقيدة الإمام الذهبي عند محاكمة عثمان الدكالي، أحد المارقين عن الاسلام، قال ابن كثير: وتكلما، وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي وهو نفذوا حكمه في المجلس، فحضروا قتل المذكور، وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره" (٣) . ولم يكن الشافعية الاشاعرة، ومنهم قاضيهم تقي الدين السبكي، قد وافقوا على محاكمة هذا الرجل، قال ابن حجر في ترجمة الدكالي هذا: كان من الخانقاه السميساطية فدعا طائفة إلى مقالات الباجريقي، فشاع أمره، فأمسك، وقامت عليه البينة بالامور المنكرة فحبس، ثم حضر المزي والذهبي، فشهدا عليه بالاستفاضة بما نسب إليه، فحكم القاضي شرف الدين المالكي بإراقة دمه، ولم يكن ذلك
_________
(١) البداية: ١٤ / ١٣٨.
(٢) البداية: ١٤ / ١٩٢.
(٣) البداية: ١٤ / ١٩٠.
1 / 23
رأي النائب ألطنبغا ولا التقي السبكي" (١) .
منزلة المزي العلمية
١ـ أبرز آثاره
احتل المزي مكانة عظيمة بين علماء القرن الثامن الهجري في الحديث وعلومه، وما يتصل بهما، وقامت شهرته على أعظم كتابين ألفهما في فنهما هما"تحفة الاشراف""وتهذيب الكمال.
ويعد كتاب"تحفة الاشراف بمعرفة الاطراف (٢) "من أعظم الكتب المؤلفة في أطراف الكتب الستة وبعض لواحقها، كان الغرض الاساس منه جمع أحاديث الكتب الستة وبعض لواحقها بطريق تسهل على القارئ معرفة أسانيدها المختلفة مجتمعة في موضع واحد. وقد رتبه على الأسانيد دون المتون، فصار معجما مرتبا على تراجم أسماء الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وفي بعض الاحيان أتباع أتباع التابعين فدونت جميع أحاديث الكتب الستة وبعض لواحقهما على هذه الأَسماء، فأصبح يتكون من (١٣٩٥) مسندا منها (٩٩٥) مسندا منسوبا إلى الصحابة بعد أن رتب أسماءهم على حروف المعجم، والباقية من المراسيل وعددها أربع مئة منسوبة إلى أئمة التابعين ومن بعدهم على حروف المعجم أيضا، وهو عمل هائل تعجز عنه العصبة (٣) . يضاف إلى ذلك أن المزي لم يقتصر فيه على الكتب الستة كما ذكرنا، بل أضاف إليها من لواحق ومؤلفات أصحاب الستة: أ- مقدمة صحيح
_________
(١) الدرر: ٣ / ٥٦.
(٢) يطبع بعناية عبد الصمد شرف الدين طبعة علمية جيدة. وطريقة كتب الاطراف أن تذكر حديث الصحابي مفردا مثل أهل المسانيد، إلا أنهم يذكرون طرفا من الحديث في الغالب خلاف أصحاب المسانيد فانهم يذكرون الحديث بتمامه. ومن أعظم فوائدها أن الباحث يكتفي بمطالعة كتاب من كتب الاطراف فيغنيه عن مطالعة جميع الكتب التي كونت مادتها إذا كان يريد معرفة طرق الحديث فيها بسبب تجمعها في مكان واحد.
(٣) راجع مقدمة الكتاب.
1 / 24