101
معنى قوله تعالى: (وليعفوا وليصفحوا) يقول الله ﵎: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أصل العفو: الطمس، ومنه قولهم: عَفَتِ الريحُ الأثرَ إذا طَمَسَتْه وأزالَتْه. وقوله: (وَلْيَعْفُوا): ذلك أن الإنسان إذا أذنب آخر في حقه ولم يؤاخذه بذلك الذنب، فكأنه قد محا أثر ذلك الذنب، فلذلك يقال: عفا عنه، وقال بعض العلماء: العفو بالأقوال، والصفح بالأفعال. فالصفح مأخوذ من صفحة العنق، وهو أن يعرض الإنسان عن الشيء الذي لا يريده، يقال: أعرض عنه صفحًا أي: أعرض عنه فلم يؤاخذه بما قال، وكل ذلك كناية عن عدم المؤاخذة. يقول الله ﵎: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا): وفي هذه الآية الكريمة دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون سمحًا لينًا حليمًا رحيمًا رفيقًا بإخوانه، فإذا حصلت الزلة والأذية من أخيه، فإنه ينبغي له إذا كان يرجو رحمة الله ويطمع فيما عنده ﷿ أن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن لا يقابل الإساءة بالإساءة فذلك أكمل. ولذلك ورد في الحديث عنه ﵊ وهو متكلَّمٌ في سنده ولكن لا تبعُد صحة متنه أنه (إذا كان يوم القيامة نادى منادي الله ﷿: مَن كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومَن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي ﷺ: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذنب) . فالإنسان إذا عفا عن غيره، وكان عفوه لوجه الله ﷿، -رجاء ما عند الله ﵎ فإنه يرجى له مثوبة الله ﷿، ولذلك قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا أساء إليه أحد فإن شاء أخذ حقه في الدنيا، وإن شاء أن يؤخر حقه إلى الآخرة أخَّرَه، فإن أخَّرَ حقه إلى الآخرة فهو مخير بين فضلين، أحدهما أعظم من الآخر: أما الأول: فهو أن يرضى أن يقتص الله له ممن ظلمه، وهذا أدنى الفضلين. وأما الفضل الأعلى: فهو أن يعفو عنه ويحتسب الأجر عند الله، قال بعض لعلماء: مَن عفا عن الذنب لوجه الله، فإنه يُرجى له من مثوبة الله أكثر مما يعطاه لو أخذ من حسنات مَن ظلمه. ولذلك رغَّب الله ﷿ في العفو والصفح لوجهه، وهذا هو شأن الفضلاء والأخيار والنبلاء أنهم يبادلون الإساءة بالإحسان، ولا يبادلون الإساءة بالإساءة، وهذا هو هدي النبي ﷺ، ولذلك كان ﵊ يقابل الإساءة بالإحسان، ولا يقابل السيئة بالسيئة، وكان هذا من وصفه في الكتب السماوية التي قبله أنه ﵊ يعفو عمن أساء إليه، ولا يؤاخذه، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه (جاءه أعرابي فأخذ بطرف قميصه ﵊ حتى أثر في صفحة عنق النبي ﷺ، فتبسم النبي ﷺ له ولم يزده على ذلك)، وورد عنه ﵊ في قصة اليهودي أنه استدان من اليهودي، فلما جاء ذات يوم أقبل عليه اليهودي، فأخذ بمجامع ثوبه ﵊ فقال: (يا محمد! اقضني ديني، فإني قد عهدتكم يا آل هاشم قومٌ مطل، فقال عمر: دع ثوب رسول الله ﷺ وإلا ضربت عنقك، فقال له النبي ﷺ: قد كنت أنا وهو أولى بخيرٍ من ذلك: أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء. فكان ذلك سببًا في إسلام اليهودي) فهذا من كريم خُلُقه صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث الصحيح عنه ﵊ وهو من أخبار السير أيضًا أنه (لما فتح الله عليه مكة وقام عليهم فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم -قال بعض العلماء: لولا أن قريشًا تعلم منه الحلم والرحمة والإحسان ما قالت له ذلك، ولكنه كان على ذلك الخلق- فقال ﵊: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال في الرواية الأخرى: لا تثريب عليكم! اذهبوا فأنتم الطلقاء) فكان ﵊ على السماحة واليسر. وورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم في حديث سلمة بن الأكوع ﵁، أنه لما لحق بالقوم قال له النبي ﷺ: (مَلَكْتَ فأسجح) أي: اعف وسامح، صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود: أن هذه الآية الكريمة أدبت عباد الله المؤمنين فتخلقوا بخُلُق الصفح، خاصة إذا كان الإنسان ممن يُقتدى به، كأهل العلم وطلابه، فهم أحق الناس بسعة ورحابة الصدر؛ تأسيًا بالنبي ﷺ. ومن العجيب الغريب أن الناس انعكست عندهم المفاهيم، وانقلبت لديهم الموازين! فأصبح الذي يعفو عن الناس، ويتجاوز عن إساءتهم يوصف بكونه ضعيفًا وجبانًا، وبكونه لا يستطيع الانتقام لنفسه، حتى ربما وصفوه بكونه امرأة وهو رجل، وهذا كله مما حرمه الله ﷿ لأنه يفضي إلى تزهيد الناس في العفو والصفح الذي يوجب أُلفة القلوب واتحاد الكلمة. والله ﵎ ندب عباده إلى العفو، ولذلك قال تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:١٣٤] أي: يحب من كان بهذه الصفة من العفو عن الناس. ولذلك كان مِن الخَطَإِ وصفُ مَن عفا عن حقه بكونه جبانًا، بل لا يؤمَن على من يتفوّه بذلك أن يكون مخالفًا لهديه ﵊، ولذلك أنكر النبي ﷺ هذا الاعتقاد، بل إنه ﷺ أنكره بأسلوب عجيب، فقال ﵊: (ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رَفَعَه) قال بعض العلماء: قوله: (ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا) قال: إن الناس تظن أن العفو ذُل، فأخبر النبي ﷺ أن العفو عزة، ولذلك تجد الإنسان إذا عفا عمن أساء إليه دلَّ ذلك على قوة شكيمته وإرادته وتحمله؛ لأن ذلك من صنيع الرجال الكاملين في الرجولة أن يتحملوا الأذى، ولذلك سُئِل الأحنف بن قيس ذات يوم، قال له رجل فضولي: (لِمَ سُدْتَ قومَك وأنت قصير دميم الخِلْقة؟! قال ﵀: بتركي لِمَا لا يعنيني كما عَناك من أمري ما لا يعنيني) . قال بعضهم: إنه كانت به خُلَّة أمكنه أن يردَّه بها، ولكن كان الأحنف ﵀ على حِلْم. فالمقصود: أن الحِلْم والصفح عن الناس من الخلق الكريم الذي يثيب الله ﷿ عليه، ونَدَب إليه الكتاب، وندبت إليه السنة.

6 / 7