Tafsir al-Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Genres
بيان ذلك: أن الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": الإنشقاق - 6 وقال تعالى: "وإليه المصير: التغابن - 3، وقال: "ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكوا سبيل، وأنهم سائرون إلى الله سبحانه.
ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم": يس - 61.
فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى "فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون": البقرة - 186، وقال تعالى: "ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين": غافر - 60، فبين تعالى: أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: "أولئك ينادون من مكان بعيد": السجدة - 44 فبين: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.
فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال تعالى: "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء": الأعراف - 40.
ولو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى: "ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى": طه - 81 والهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل": البقرة - 108، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام: من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى السفل وهم المغضوب عليهم، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون، وربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات": المجادلة - 11.
يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام.
وبيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل": البقرة - 108.
وفي هذا المعنى قوله تعالى "أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا": يس - 62.
والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: "إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم - 22.
كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون": الأنعام - 82 وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقا، وهذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.
Page 14