76

Tafsīr Ibn Kathīr

تفسير ابن كثير

Chercheur

سامي بن محمد السلامة

Maison d'édition

دار طيبة للنشر والتوزيع

Numéro d'édition

الثانية

Année de publication

1420 AH

Genres

Tafsir
كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رسول الله ﷺ؟ قال: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ﵄. فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُب واللِّخَاف وَصُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] حَتَّى خَاتِمَةَ بَرَاءَةٌ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، ﵃ (١) .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا [الْحَدِيثَ] (٢) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ (٣) .
وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ وَأَجَلِّ وَأَعْظَمِ مَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ، ﵁، فَإِنَّهُ أَقَامَهُ اللَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ مَقَامًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، قَاتَلَ الْأَعْدَاءَ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَالْمُرْتَدِّينَ، وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَنَفَّذَ الْجُيُوشَ، وَبَعَثَ الْبُعُوثَ وَالسَّرَايَا، وَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ بَعْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَفَرُّقِهِ وَذَهَابِهِ، وَجَمَعَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مِنْ أَمَاكِنِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ حَتَّى تَمَكَّنَ الْقَارِئُ مِنْ حِفْظِهِ كُلِّهِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ سِرِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ٩] فَجَمَعَ الصِّدِّيقُ الْخَيْرَ وَكَفَّ الشُّرُورَ، ﵁ وَأَرْضَاهُ. وَلِهَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ وَكِيع وَابْنُ زَيْدٍ وَقَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ﵁، أَنَّهُ قَالَ: أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الْمَصَاحِفِ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ (٤) . إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ: خَتَمَهُ (٥) . صَحِيحٌ أَيْضًا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ﵁، هُوَ الَّذِي تَنَبَّهَ لِذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ، أَيِ اشْتَدَّ الْقَتْلُ وَكَثُرَ فِي قُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، يَعْنِي: يَوْمَ الْيَمَامَةِ، يَعْنِي يَوْمَ قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَأَصْحَابِهِ وَمِنْ بَنِي حَنِيفَةَ بِأَرْضِ الْيَمَامَةِ فِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْتَفَّ مَعَهُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، فَجَهَّزَ الصِّدِّيقُ لِقِتَالِهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ (٦) فَانْكَشَفَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ لِكَثْرَةِ مَنْ فِيهِ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَنَادَى الْقُرَّاءُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ: يَا خَالِدُ، يَقُولُونَ: مَيِّزْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ فَتَمَيَّزُوا (٧) مِنْهُمْ، وَانْفَرَدُوا، فَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، ثُمَّ صَدَقُوا الْحَمْلَةَ، وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَعَلُوا يَتَنَادَوْنَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمْ يَزَلْ ذلك دأبهم حتى فتح الله

(١) صحيح البخاري برقم (٤٩٨٦) .
(٢) زيادة من جـ.
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٧٩، ٤٩٨٩) والمسند (١/ ١٠) وسنن الترمذي برقم (٣١٠٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (٧٩٩٥) .
(٤) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ١٥٦) وابن أبي داود في المصاحف (ص ١١) .
(٥) المصاحف (ص ١٢) .
(٦) في جـ: "بهم".
(٧) في جـ: "فميزوا".

1 / 25