Le Tafsir de l'Océan
البحر المحيط في التفسير
Enquêteur
صدقي محمد جميل
Maison d'édition
دار الفكر
Édition
١٤٢٠ هـ
Lieu d'édition
بيروت
لَا يَتْرُكُ، فَعَبَّرَ بِالْحَيَاءِ عَنِ التَّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحَيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخْشَى، وَسُمِّيَتِ الْخَشْيَةُ حَيَاءً لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ «١»، أن معناه تستحيي مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ هِيَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى التَّأْوِيلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا فِي اللُّغَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَمُرَّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ صِفَاتَهُ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَاهِيَّتِهَا الْخَلْقُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، فَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نَسَبْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا اسْتَحَالَ أَوَّلْنَاهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، كَمَا نُؤَوِّلُ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْحَيَاءُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَدْ جَاءَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ مُثْبَتًا فِيمَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ يَدَيْهِ أَنْ بردهما صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا»
، وَأُوِّلَ بِأَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ الْعَبْدِ مِنْ عَطَائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا فِي الِاسْتِحْيَاءِ، فَنُسِبَ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بِحَالٍ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ:
إذا ما استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ قَالَ أبو التمام:
هُوَ اللَّيْثُ لَيْثُ الْغَابِ بَأْسًا وَنَجْدَةً ... وَإِنْ كَانَ أَحْيَا مِنْهُ وَجْهًا وَأَكْرَمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَحْيِي عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: مَا يستحيي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ
وَمَجِيءُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا قُوبِلَ بِهِ، شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٢»، وَجَاءَ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْفِيًّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُهُ، يَصِحُّ أَنْ ينفى
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٧.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
1 / 196