وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار
[إبراهيم: 34]. ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلى كل عمل بسم الله.. فعلمنا أن نقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
[الفاتحة: 1] لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله. وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله.. لأنه رحمن رحيم، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى.
ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين، الذي أوجدك من عدم.. وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. أنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة. والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا الى الوجود. ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته.. وليس بما يستحقون.. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر.. ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن قط، والمطر ينزل على من يعبدون الله. ومن يعبدون أوثانا من دون الله. والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها. وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله هي في الدنيا لخلقه جميعا، وهذه رحمة.. فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه. وهذه رحمة، والله قابل للتوبة، وهذه رحمة. إذن ففي الفاتحة تأتي { الرحمن الرحيم } [الفاتحة: 3] بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه، فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه. وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه. وهذه رحمة تستوجب الشكر. فمعنى { الرحمن الرحيم } [الفاتحة: 3] في البسملة يختلف عنها في الفاتحة. فإذا انتقلنا بعد ذلك الي قوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 2] فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل أن يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله. والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات.. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل إلى قصيدة أو خطاب مليء بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله. ولعلنا نفهم أن المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه.. فلنقلل من الشكر والثناء للبشر.. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين.. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الإلهي.. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون عن أن يصلوا الى صيغة الحمد التي تليق بجلال النعم.. فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الألوهية لله، فقال:
" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع أن يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد.. طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا. ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له.. فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم.. أن نقول { الحمد لله } [الفاتحة: 2] ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام. ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا. ويظل الله دائما محمودا.. فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والأرض وأوجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها إلى يوم القيامة.. وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنساني، فعندما خلق الانسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل إن الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا للبشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خلق فوجد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق.. وحينما نزل آدم وحواء إلى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما.. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنساني وخلقت بعده لهلك الإنسان وهو ينتظر مجيء النعمة. بل إن العطاء الإلهي للإنسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه، فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فإذا خرج إلى الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه.. وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلى مرحلة التكليف وقبل أن يستطيع أن ينطق: { الحمد لله } [الفاتحة: 2]. وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم عليه دائما.. فالإنسان حيث يقول " الحمد لله " فلأن موجبات الحمد وهي النعمة موجودة في الكون قبل الوجود الإنساني. والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد.
فالشمس تعطي الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه.. فالزرع ينبت بقدرة الله.. والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك.. لا أنت أتيت بضوء النهار.. ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئا. كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان، ولكنه خلق ليجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه. ألا تستحق أن نقول الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان؟ إنها تقتضي وجوب الحمد. وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد.. فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقا عظيما. فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان.. ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه. فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس أو أوجد النجوم أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون أو أعطى الأرض غلافها الجوي.. أو خلق نفسه أو خلق غيره. هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى، هي التي أوجدت وهي التي خلقت.. وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا الي خالق هذا الكون العظيم. فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخلق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق.. وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علنا نلتفت ونفيق.. والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله.. والزرع يخرج من الأرض يسقى بماء واحد. ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة.. وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع.. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد. كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقا عظيما. ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية، فنعم الله لا تعد ولا تحصى.. وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى وتعطينا الدليل الإيماني على أن لهذا الكون خالقا مبدعا.. وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق ما فيه.. فالقضية محسومة لله.. و { الحمد لله } [الفاتحة: 2] لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه.
بل إن كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الانسان يمتدح الوجود وينسى الموجود!! أنت حين ترى جوهرة جميلة مثلا أو زهرة غاية في الإبداع.. أو أي خلق من خلق الله يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق.. فتقول: ما أجمل هذه الزهرة أو هذه الجوهرة أو هذا المخلوق.. ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه.. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها.. وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق.. بل قل الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق. ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد.. لأن الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير ويبعدنا عن طريق الشر. فمنهج الله الذي أنزله على رسله قد عرفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا.. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقا عظيما.. ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا. ولذلك أرسل الله رسله، ليقولوا لنا إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله بين لنا ماذا يريد الحق منا وكيف نعبده.. وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعا حقا.. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا.. ولا يفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله. إذن، فشريعة الحق وقول الحق، وقضاء الحق، هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى تميز بعضا عن بعض.. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، لذلك نجد في كل منهج بشرى ظلما بشريا. فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعمة والترف. بينما الشعب كله في شقاء.. لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم. ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة. وكذلك في الدول الرأسمالية. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير. ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس.. وأعطى كل ذي حق حقه. وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد. والحق سبحانه وتعالى، يستحق منا الحمد لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا. فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر.. لأنهم يطمعون لما في أيديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج الى ما في أيدينا، إنه يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
Page inconnue