تفسير الشعراوي
تفسير الشعراوي
Genres
وسالت بأعناق المطي الأباطح
أي كأنه سيل متدفق، هكذا تماما تكون الإفاضة من عرفات. وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى " مزدلفة " تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصا من مجموعة، وفي موقف الحجيج إفاضتان: إفاضة من عرفات، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول - سبحانه -: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } [البقرة: 199]. وعرفات ننطقها بمنطوقين: مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الآية، ومرة ننطقها " عرفة " كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" الحج عرفة "
وعرفات جمع، وعرفة مفرد. هذه الكلمة أصبحت علما على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة، ولا تظن أنها جبل، فإذا سمعت: " جبل عرفات " كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات. وليس عرفات في ذاتها، ولذلك تجد أناسا كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج. نقول لهم : لا، الوقوف يكون في الوادي، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات، فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل. وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة. وهناك فرق بين الاسم يكون وصفا ثم يصير اسما. وبين أن يكون علما من أول الأمر. وقلنا: إنه إذا سميت العلم من أول الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ فقد تسمى واحدا شقيا ب " سعيد " ، وتسمى زنجية ب " قمر " ، وهذا لا يسمى " وصفا " وإنما يسمى علما إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل، فيقال: أسمي ابني " سعيدا " تفاؤلا بأن يكون " سعيدا " ، وعندما تكون بنتا فقد تعطيها اسما مخالفا لحالها، فقد تكون دميمة وتسميها " جميلة " تفاؤلا بالاسم. هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل. والعرب عندما كانوا يسمون الأسماء كانوا يتفاءلون بها. مثلا كانوا يسمون " صخرا " ليتفاءلوا به أمام الأعداء. ويسمون " كلبا " حتى لا يجرؤ عليه أحد. وقيل لعربي: إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيدا " و " سعدا " و " فضلا " وتسيئون أسماء أبنائكم تسمونهم: " مرة " ، " كلبا " ، " صخرا " قال العربي: نعم لأننا نسمي أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم، ونسمي عبيدنا لنا.
وكلمة " عرفة " هي الآن علم على مكان، لكن سبب تسميتها فيه خلاف: قيل: لأن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان، فسمي " عرفة ". والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن الآخر، إذا كان الله عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟. لك أن تتصور حال آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده، وينظر حوله فلا يجد بشرا مثله، بالله ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته؟. وماذا يكون حاله عندما يرى إنسانا؟. لا شك أنه سيقابله باشتياق شديد. من أجل هذا فرق الله بينهما وجعل كلا منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته، ولو ظل كل منهما بجوار الآخر فربما كان الأمر عاديا. وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للآخر، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد، فكان الشوق للقاء. وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن، وهو مطلوب الحياة لزوجين. وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات: إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان: اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23]. فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب. أو حينما أراد الله أن يعلم إبراهيم عليه السلام، وهو الذي دعا ربه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان. إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه. وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه: المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحيا. والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد، والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه. إنها ثلاث مشقات صعاب، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة، بل لابد أنه تحدث فيها كثيرا بينه وبين نفسه، وهل هي رؤيا أم ماذا؟. ومن هنا سمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية. وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى. والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سمي عرفة. أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم. أليس هو القائل:
لأقعدن لهم صراطك المستقيم
[الأعراف: 16]. فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعا، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعا، بعدها لم يأت له ثانية، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه، ولذلك سمي المكان بالمزدلفة، والمزدلف هو المسرع، ويسمى " ذا المجاز " أي أنه اجتاز المزدلفة، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة.
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان، فيقول له: عرفت؟ فيرد إبراهيم: " عرفت ". أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان: هذا عرف، وذاك عرف، وثالث، ورابع، وهكذا فيكون كلنا: عرفات ، ويصبح المكان عبودية لله. اشترك فيها جميع الحجاج. { فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } [البقرة: 198]. والمشعر الحرام في مزدلفة: " فاذكروا الله " معناها أن الله يسر لكم هذه الرحلة الشاقة، وجاء بكم آمين وقاصدين بيت الله الحرام، ثم تعودون مغفورا لكم، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان. { واذكروه كما هداكم } [البقرة: 198] لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه، والتحية يجب أن يرد عليها، فكما هداكم اذكروه. { وإن كنتم من قبله لمن الضآلين } [البقرة: 198] لأنهم طالما حجوا كثيرا، في الجاهلية، فأنتم كنتم تحجون بضلال، والآن تحجون بهدى. { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [البقرة: 199]. قوله: " ثم " تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة لأن " ثم " تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل. إذن قوله: { ثم أفيضوا } [البقرة: 199] حجة لمن قال: إنه لابد من المبيت في مزدلفة. وهذه الآية نزلت لأن قريشا كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يطالبون أبدا بما يطالب به سائر الناس، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات، والله يريد بالحج المساواة بين الناس، ولذلك قال النبي في حجة الوداع:
Page inconnue