تفسير الشعراوي
تفسير الشعراوي
Genres
فإن له معيشة ضنكا
[طه: 124]. ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله، وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم ترتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره، فمن لا يحب أن تجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات في غيره. وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة الإسلامية بخصوص فريدة لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله فقديما كانت السماء هي التي تؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم، إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأي وسيلة. ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقا للآية الكريمة:
قالوا وما لنآ ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا..
[البقرة: 246]. علة القتال - إذن - أنهم أخرجوا من بيوتهم وأجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله، فلا إكراه في الإيمان بالله. وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حرا مختارا في أن تقبل التكليف.
ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم: إن حججهم ساقطة واهية، وكذلك قولهم: إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال، نقول لهؤلاء: جزية على من؟ جزية على غير المؤمن، وما دام قد فرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن، لو كان الإسلام يكره الناس على اعتناقه لما كان هناك من نأخذ عليه جزية. إذن فالإسلام لم يكرهه، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يكرهه أحد على ترك دينه، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم. وكأن الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه فسهامهم قد ارتدت إليهم. وهنا تساؤل قد يثور: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول: إن حروب الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحرارا في أن يختاروا الدين المناسب. ولماذا تركهم الإسلام أحرارا؟ لأنه واثق أن الإنسان ما دام على حريته في أن يختار فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحا في الإسلام. ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى:
لا إكراه في الدين..
[البقرة: 256]. لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله سبحانه من الآية نفسها
قد تبين الرشد من الغي
[البقرة: 256]. إذن فالمسألة واضحة لماذا نكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس فأنت تستطيع أن تكره القالب، لكن لا تستطيع أن تكره القلب. ونحن نريد أن ينبع الإيمان من القلب، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين
Page inconnue