قال الأحسائي: هذا البيت يحتمل كثيرًا من الوجوه فمنها أن كل غطريف، وهو السيد من أولئك، يود لموضع الشفقة عليك والمحبة أن تسير على مفرقه، محمولًا على قوله) ليت أنا إذا ارتحلت لك الخيل (ومنها أنهم يحسدون الطريق التي تسلكها على القرب منك، فيودون أن مفارقتهم طرق لك، لتأمن من سطوتك كما تأمن الطرق إذا سرت فيها، ومنها أنهم لشدة ما يقاسون من خوفك يتمنون أنهم لم يخلقوا، وأنهم تراب بعد في الأرض يوطأ عليه، لأن أصل الخلق من الطين، ومنها أن الطريق يقال له: مفرق، والمفرق من الرأس متفرق الشعر، فيقول: إن مفرق الرأس لما وافق الطريق في اللفظ قالوا ليته وافقه في المعنى على الوجوه التي ذكرناها.
ومن التي أولها: إلامَ طَماعِيةُ العاذِلِ قوله:
فَلماَّ نَشِفْنَ لَقِينَ السَّياطَ ... بمثلِ صَفا البَلَدِ الماَحِلِ
قال الشيخ: يقول إن عرق الخيل أبيض، فلما يبس على جلودها لقيت السياط بمثل صفا البلد الماحل، أي أنها مبيضة بالعرق، وكأن السياط تقع منها بأرض بيضاء لم يصبها مطر.
شَّفَنَّ لَخْمسٍ إلى مَنْ طَلَبْنَ قَبلَ الشُّفُونِ إلى نازِلِ قال ابن جني: شفن أي نظرن في اعتراض، وسئل عن معنى هذا البيت فقال: أردت أن الخيل نظرت إلى من طلبته بعد مسيرة خمس قبل أن ينظر إلى نازل عنها من أصحابها، أي طرد المسير عليها خمسًا حتى أدركوا.
فَدَانَتْ مَرَافِقُهُنَّ البَرَي ... على ثِقَةٍ بالدَّمِ الغاسِلِ
قال الشيخ: دانت أي قاربت، ومرافقهن مرافق الخيل، والبري: التراب، يريد أنهن مددن أيديهن في الجري، حتى دنت مرافقهن من التراب، وادعى أنهن فعلن ذلك لعلمهن أن الدم يغسله عنهن.
وَمَا بينَ كاذَتي المُسْتَغيرِ ... كَما بينَ كاذَتي البائِلِ
قال ابني جني: الكاذة لحم في أصل الفخذ من الفرس، والجمع كئاذ، والمستغير الذي يطلب الغارة، أي قد اتسعت فروجهن لشدة الجري والبائل الذي قد انفرج ليبول فتباعدت فخذاه.
وقال الشيخ: شبه العرق ونزوله بنزول البول، وقد ذهب بعض من فسر هذا البيت إلى أن الفرس إذا أعيا باعد ما بين فخذيه، فكأنه قد فرجهما ليبول، والأول أشبه.
فَلُقَّينَ كُلّ رُدَْينيَّةٍ ... وَمَصْبًوحةٍ لَبَنَ الشَّائلِ
قال ابن جني: سألته عن هذا فقلت: إن الشائل لا لبن لها وإنما التي بها بقية من لبنها هي التي يقال لها الشائلة بالهاء، فقال أردت الهاء وحذفتها ومثل هذا يجوز للشاعر كما قال كثير:
خَلِيليَّ إنْ أُمُّ الحَكيم تَبَدلتْ ... وأخْلَتْ لَخيماتِ العُذَيب ظِلالها
قيل أراد العذيبة فحذف الهاء، وسألته عن غرضه فقال إن الناقة إذا شال لبنها خف ومرؤ ونجع في شاربه، فلم يسقوه إلا كرائم خيلهم، والأمر على ما ذكره وبذلك وردت أشعارهم.
قال الشيخ: أراد بالشائل القليلة اللبن، وأكثر ما يقولون ناقة شائلة، إذا قل لبنها والجمع شول، والمراد أن هذه الخيل لكرمها على أصحابها تؤثر باللبن، وتشرك العيال، والعرب تفتخر بذلك قال الأخطل:
إذا مَا الخَيلُِ ضَيَعها أُناسُ ... رَبطْناها فَشاركَت العِيالا
نَهينُ لها الطَعامَ إذا شَتَونَا ... ونَكسُوهَا البَراقعَ والجِلالاَ
بضَرْبٍ يَعُمُّهُمُ جائِرٍ ... لَهُ فِيهمُ قِسْمَةُ العادِلِ
قال ابن جني: أي هذا الضرب وإن كان لإفراطه جورًا فإنه في الحقيقة عدل، لأن قتل مثلهم عدل وقربة من الله سبحانه وهذا كقول أبي تمام:
أنْ لَستَ نِعم الجارُ للسُّنَنِ الأُلَى ... إلاَّ إذَا ما كُنْتَ بئسَ الجارُ
ويجوز أن يكون أراد أن هذا الضرب لما عمهم وجار على جميعهم، ثم كان أكثره ومعظمه في الأبطال وذوي النجدة منهم، ظهرت فيه صورة العدل والأول أظهر.
وقال الشيخ: وصف الضرب بالجور، أي انه يسرف فيكون كأنه كمن يجوز، وقوله) له فيهم قسمة العادل (أي يقد الرجل فيجعله كالذي قسم جسمه، وهذا كالذي يروى عن علي ﵁ أنه كان اعتلى قد وإذا اعترض قط.
وَطَعْنٍ يُجَمَّعُ شُذَّاَنَهُمْ ... كَما اجْتمْعَت دِرَّةُ الحافِلِ
1 / 58