ويجوز أن يكون توهم الهاء في قوله) في نعمائه (عائدة إلى ما بات، ولو كانت عائدة إليه كان المعنى مأخوذا من قول أرسطاطاليس كما ذكر. وإنما الهاء عائدة إلى الممدوح، ومعنى البيت أن إنعامه فائض على كل أحد فاظلم الناس من يحسد من نال من خيره. إذ كان خيره مبذولا لكل أحد، فلم يبق للحسد وجه. وإنما هذا مثل قوله: كسَائِلِه مَن يسأل الغَيثَ قطرَةً وخارج من مخرجه.
وَدُونَ الذي يبغُونَ ما لَو تخلَّصُوا ... إلى الشَّيبِ منهُ عشت والطِّفلُ أشيَبُ
قال ابن جني: أتى دون ما يريدون من السوء الموت، والذي لو تخلصوا منه إلى الشيب لشاب، ولكنهم لا يخلصون من الموت إلى الشيب بل يقتلهم قبل ذلك.
ويُغنِيكَ عَمَّا يَنسُبُ النَّاسُ أنَّهُ ... إلَيكَ تَناهَى المُكرماتُ وتُنسَبُ
قال أبو علي: قوله عما ينسب الناس. يبعد قليلا هذا البيت عن الفهم، وهو مع ذلك ظاهر، يقول يغنيك عن النسب أن المكارم كلها تنسب إليك. وظاهره مأخوذة من قول ابن أبي طاهر:
خَلائقُهُ للمَكرُمات منَاسبٌ ... تَناهَى إليها كلُّ مَجدٍ مُوثَّلِ
وللبيت باطن خبيث، وهو سخرية يردي أنه لا نسب لك لأنك عبد، ثم زاد دلالة على السخرية فيما يليه:
وأيُّ قَبِيلٍ يَستَحِقُك قَدرُهُ ... مَعَدُّ بنُ عَدنانٍ فِداكَ وَيَعرُبُ
أفتراه أجل من النبي ﷺ وهو من معد بن عدنان!.
ومن التي أولها:
لا يُحزِنِ اللهُ الأميرَ فإنَّني ... لآخُذُ مِن حالاتِهِ بِنَصِيبِ
قال الشيخ أبو العلاء: في هذا البيت خزم، ولم يخزم أبو الطيب إلا في موضعين أحدهما هذا والآخر: إنْ تَكُ طَّيءٌ كانَتْ لِئاما وقال أبو علي ابن فورجة: هذا البيت ظاهر اللفظ والمعنى، وإنما حملني على إيراده أني قرأت أوراقا قد وسمت بمساوئ المتنبي. أنشأها الصاحب كافي الكفاءة أبو القاسم، قد ارتكب فيها شيئا من المزج عجيبا، ليس من طريقة العلم، ولا مما أفاد غير خيلاء الوزارة وبذخ الولاية. ولعمري لو لم يرو عنه هذا الكتاب لكان أجمل بمثله، إذ كان لم يتعد فيه التهزؤ الفارغ والكلام اللغو. حتى أنه ما يكاد ينتقص بيتا من الأبيات التي نقمها على أبي الطيب بما يفيد معرفة، مخطئا فيه أو مصيبا، إلا مواضع يسيرة كأنها عثار منه بالجد لا عمد، وهذه رسالة عملها في صباه والنزق حداه على إظهارها وما أجدر مريد الخير بكتمانها عليه، فمن الأبيات التي ردها عليه هذه الأبيات يقول: ولا ندري لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، أترى هذه التسلية أحسن عند أمته أم قول أوس:
أيَّتُها النَّفسُ أجمِليِ جَزَعَا ... إنَّ الذي تذَريَن قد وَقَعَا
قد أخطأ في موضعين، أحدهما أنه ظن أنه يقول كلما أحزن سيف الدولة حزنت فقط، وظن أن يحزن الله لأنه إخبار ولو ظنه ذلك لما استفهم، فقال لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق وهذا خطأ ويحزن جزم والنون ساكنة وحركت لالتقاء الساكنين، وهو دعاء كما تقول: لا يمت زيد، ولا تشلل يدك، فيقول لا أصابك الله بحزن فأني أحزن إذا حزنت، كأنه يقول لا أحزنني الله ولا نالني بحزن والغلط الثاني أنه قال: أترى هذه التسلية أحسن أم قول أوس؟ فأن هذا البيت ليس بتسلية وإنما هو دعاء للممدوح، وليحسب أنه على ما أظنه قائل هذا القول، فكيف يكون تسلية، إخباره أن الله لا يحزن سيف الدولة لأن المتنبي شريكه، فهذا ظاهر وترك الدلالة على هذه الزلة غير سائغ.
ولا فَضلَ فيها للشَّجاعَةِ والنَّدَى ... وَصَبرِ الفَتى لَولا لِقاءُ شَعُوبِ
قال ابن جني: يقول لو أمن الناس الموت لما كان للصابر والشجاع فضل، لأنه قد أيقن بالخلود ولا خوف عليه.
1 / 14