Tafsir de Sadr Din Shirazi
تفسير صدر المتألهين
Genres
ومآ أمرنآ إلا واحدة
[القمر:50]. ومنه نشأ الملائكة المقربون القائمون بأمره تعالى في منازلهم ومراتبهم، المفطورون على كمالهم الأصلي، لا يتعدونه، كل له مقام معلوم، منهم سجود لا يركعون، ومنهم ركوع لا يسجدون. والعبارة من الثانية؛ عالم الخلق والفعل والتقدير، قال:
كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين
[الأنبياء:104]. وعالم الخلق دائم الحركة والانتقال والحدوث والزوال، ونحن قد أقمنا البرهان على تجدد الطبائع الجسمية، وسيلان الجواهر المادية برهانا قطعيا، وبينا أن غاية جميع هذه الحركات والانقلابات الإرادية والطبيعية هو الله تعالى، وان جميع الموجودات العالية والسافلة بتوجهون نحوه ويولون شطره بما يسري إليهم من نور عشقه وفيض رحمته، وهذا المعنى مما يمكن إدراكه بالحدس والتجربة، لما نشاهد من كل موجود نراه شوقا إلى ما هو أعلى منه، وحركة إلى ما يشتاقه ويتمناه، ومعاد كل موجود إلى ما هو مبدأه، ومرجعه إلى ما هو منشأه، وكل ما هو أعلى مبدءا يكون أرفع غاية وأشرف مآبا ومرجعا، فمرجع العنصر إلى العنصر كماء المطر انفصل من البحر أولا واتصل به ثانيا كان بحرا ثم بخارا، ثم انعقد سحابا، ثم تقاطر أمطارا، ثم جرى عيونا وأنهارا، ثم اتصل بالبحر فصار بحرا كما كان بعد أن تطور أطوارا، وكذا مرجع النبات مع زيادة منزلة وبركة، كحال الحبة في تقاليب الأطوار إلى أن تبلغ مرتبة الثمار، فيبتدي أولها وهو لب يدفن في الأرض وكاد أن يفسد ويغيب عن ذاته في الأماكن الغريبة، ثم أفادها الله قوة محركة تستحيل بها من حال إلى حال حتى تنتهي إلى كمالها الأصلي، فتبلغ إلى درجة اللب الذي كانت عليه في بدؤ أمرها مع أعداد كثيرة من أفراد نوعه وفوائد زائدة من القشور والأنوار والأوراق والأزهار.
وكذلك حال الحيوان، فهو أعظم قوسا في العروج إلى الله وأبعد نزولا وصعودا من النبات وصورة الأركان:
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم
[هود:56].
وأما الإنسان - أي الحقيقي لا الصوري - فهو الغاية والمقصود الأصلي من جميع الخلائق والأكوان، ولأجله خلقت المكونات وترتبت الموجودات ونشأت المواليد والآباء والأمهات، فمنازل سيره وصعوده إلى الله واقعة على النصف الصعودي لدائرة الإمكان، على عكس مراتب نزوله من عند الله الواقعة على النصف النزولي لهذه الدائرة، وذلك لأن الله مبدأه ومعاده، وهو المهتدي المنعم عليه المعتني به من أول الأمر إلى آخر العهد فلم يزل الإنسان الذي سبقت له المشية الأزلية أن يستعمله الله لسياقة حكمته الى غايتها، منظورا إليه في سائر مراتب الاستيداع من حيث أفراد الإرادة المنبعثة عن العلم الأزلي في مقام القلم الأعلى العقلي، ثم في مقام اللوح النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمتها في الأجسام، ثم في العرش المحدد للزمان والمكان مستوى الاسم الرحمن، ثم في الكرسي الكريم مستوى الاسم الرحيم، ثم في السموات السبع، ثم في العناصر، ثم في المواليد، وهلم إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء مراتب الاستيداع، مخصوصا بمزيد الاعتناء، موسوما بسمة التوفيق والهداية، مهتما به اهتمام تاما مراعى في كل عالم وحضرة يمر عليهما بحسن الرعاية، مخدوما بخدمة أهل ذلك العالم والمرتبة، ليتم به وبخدمته وإمداده وحسن تلقيه أولا، ومشايعته ثانيا، ذواتهم وصورهم بحسب ما يدركونه فيه من سمة العناية وأثر الإختصاص. وما من عالم من العوالم العلوية مر عليه إلا وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي، إن لم تتداركه العناية الإلهية، لغلبة أحكام بعض النشآت، أو صفة بعض الأرواح الذي يتصل به حكمه عليه، وكذلك بعض الأفلاك بالنسبة إلى البواقي، فيتعوق أو ينحرف عما يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي، وصورة الصراط الوسطي الرباني الذي هو شأن من سبقت له العناية في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمة الكون إلى غايتها، ثم الأمثل فالأمثل.
وإذا دخل عالم المواليد وسيما من حين تعدى مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه، ثم منه إلى عالم الحيوان، إن لم تصحبه العناية الأزلية، ولم يصحبه الحق بحسن المعونة والحراسة والرعاية، وإلا حيف عليه، فانه بصدد آفات كثيرة، لأنه عند دخوله عالم النبات، إن لم يكن محروسا معتنى به، وإلا فينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيته إلى مزاج ردئ، ينحرف به عن صراط الحق فيخرج منه تارة أخرى إلى باب العناصر، ويبقى فيه حائرا عاجزا، حتى يعان ويؤذن له في الدخول مرة اخرى. فربما عرضت له آفة من العناصر، كبرد مسدد أو حر مفرط أو رطوبة زائدة، أو يبس غالب، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولا آخر، وهكذا مرارا شتى حسب ما شاء الله وقضاه وقدره. ثم على تقدير سلامته أيضا في ما ذكرناه بنعمة الحراسة والرعاية وسائر النعم التي يستدعيها فقره، فإنه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوين النشأة الحيوانية منه، فإذا دخل في باب الحيوانية، تضاعفت حاجته إلى الحفظ والتربية والصيانة والحراسة من الآفات والمضادات لواحد واحد من أعضائه وقواه الحيوانية بعد قواه النباتية، فهو مفتقر الى الهداية والتوفيق، ونعمة السلامة والحراسة والرعاية في كل مرتبة وصورة صورة ونشأة نشأة، إلى حال مسقط النطفة وحال الولادة، فهو مفتقر إلى أن يخرجه الله مخرجا صدقا ويدخله مدخلا كريما من حيث ظاهره وباطنه.
فالمختصان بمسقط النطفة حال التوليد من أحكام الزمان والمكان، شاهدان طي كثير من أحواله البطانة، والمختصان بمسقط الرأس حال الولادة، شاهدان على معظم أحواله الظاهرة، وسر الابتداء في السلوك إلى جانب الحق، فالعادة الإلهية جارية بأن من اختص بمزيد العناية ونعمة الحراسة، وأثر الإختصاص من بداية أمره، وشروعه من منبع المشية الإلهية الى هذا المقام وهو مقام العقل والتكليف والدعوة أن يهديه إلى صراطه ويسوقه إلى تمام النعمة، وغاية الحكمة، وغاية الايجاد، وزينة المعاد، وصورة الكمال الوجودي، فأين من يكون أحدي السير من حين صدوره من غير الحق الى عرصة الوجود العيني والنزول الكوني، لم يتعوق من حيث حقيقته وروحانيته في عالم من العوالم، ونشأة من النشئآت، وحضرة من الحضرات ممن يتعوق ويتردد لتصادم الموانع والآفات، ويتكرر ولوجه وخروجه المقتضيان لكثافة حجبه، وكثرة تقلبه في المحن والعوائق - نعوذ بالله منها.
Page inconnue