قال جار الله: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالتحاكم إلى الطاغوت { جاؤوك } تائبين من النفاق { فاستغفروا الله } من ذلك بالاخلاص وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفرا { لوجدوا الله توابا } أي فتاب عليهم { فلا وربك } معناه فوربك كقوله: فوربك لنسألنهم ولا مزيد للتأكيد معناه القسم، وقيل: معناه فلا وربك أي خالقك ورازقك يا محمد وهي قسم { لا يؤمنون } أي لا يكونوا مؤمنين بنبوتك { حتى يحكموك } يجعلوك حكما أي يقرون أن الحكم إليك { فيما شجر بينهم } فيما اختلط من أمورهم وفيما اختلفوا فيه من المنازعات، والآية نزلت في اليهودي والمنافق الذين قالوا: يحتكمون إلى الطاغوت { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا } إذا حكمت بينهم لا يجدون في قلوبهم ضيقا، وقيل: شكا { ويسلموا تسليما } وينقادون يذعنون لما تأتي به من قضائك لا يعارضونه بشيء، قال جار الله: سلم لأمر الله وأسلم له حقيقة سلم نفسه له وأسلمها إذا جعلها سالمة له خالصة وتسليما تأكيدا للفعل بمنزلة تكرير كأنه قيل: تنقادون لحكمه انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، وقيل: نزلت في شأن المنافق واليهودي، وقيل:
" في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة حين اختصما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سراح من الحرة كانا يسقيان به النخل فقال: " إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب خاطب وقال: لئن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: " اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك " كان على الزبير برأي فيه السعة ولخصمه فلما احفظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استوعب الزبير حقه في صريح الحكم ثم خرجا إلى المقداد فقال قائل: إن هؤلاء يشهدون به رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم "
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } أي لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حتى استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه { إلا } ناس { قليل منهم } وهذا توبيخ عظيم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من اتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحكمه وطاعته والانقياد لما يراه { لكان خيرا } في عاجلهم وآجلهم { وأشد تثبيتا } لإيمانهم { وإذا } جواز السؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبت، فقيل: { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم } وللطفنا بهم ووفقناهم.
[4.69-74]
{ ومن يطع الله والرسول }
" الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد الحب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل: قليل الصبر عنه فأتاه ثوبان وقد تغير وجهه ونحل جسمه فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حاله فقال : يا رسول الله ما بي من وجع غير أني إذا لم أراك اشتقت إليك فاستوحشت حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت ألا أراك لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة كنت في منزل دون منزلتك فإن لم أدخل فذاك حين لا أراك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وولده والناس أجمعين " ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أبشر يا ثوبان فإن المرء مع من أحب "
{ والصديقين } قال جار الله: هم أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم { وحسن أولئك رفيقا } فيه معنى التعجب عليهم كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا { ذلك الفضل من الله } والمعنى إنما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم تبعا لثوابهم { وكفى بالله عليما } يجزي من أطاعه { يأيها الذين آمنوا خذو حذركم } يعني إحذروا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم وإذا نفرتم إلى العدو { فانفروا ثبات } جماعات متفرقة سرية بعد سرية وأما مجتمعين { وإن منكم لمن ليبطئن } الآية نزلت في المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد فإذا أصابتهم مصيبة قالوا قول الشامت بهم لأنهم كانوا يفرون معهم نفاقا ومعنى ليبطئن ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد كما فعل عبد الله بن أبي وهو الذي شط الناس يوم أحد لعنه الله وأخزاه { فإن أصابتكم مصيبة } من قتل أو هزيمة، قال: { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } { ولئن أصابكم فضل من الله } فتح أو غنيمة { ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقوهم في الظاهر { فليقاتل في سبيل الله } الآية، قيل: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد، وقيل: نزلت في المؤمنين المخلصين { الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } هم المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان لله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد والذين يتبعونهم هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة عن العاجلة.
[4.75-79]
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } أي في دينه أي ليس لكم عذر في ترك القتال أيها المؤمنون { والمستضعفين من الرجال والنساء } هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين يلقون منهم الأذى الشديد وكانوا يدعون الله بالإخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر ولما خرج استعمل على أهل مكة عياض بن أسد قال ابن عباس كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة { الذين يقولون } هؤلاء المستضعفين يقولون في دعائهم { ربنا أخرجنا من هذه القرية } أي سهل لنا الخروج وانقذنا من أيدي الظلمة من هذه القرية يعني مكة { الظالم أهلها } الذين ظلموا المؤمنين وصدوهم عن دينهم ومنعوهم من الهجرة { واجعل لنا من لدنك وليا } قيل: اجعل لنا بألطافك { واجعل لنا من لدنك نصيرا } { الذين آمنوا } صدقوا الله ورسوله { يقاتلون } يجاهدون { في سبيل الله } أي في دينه وطاعته { والذين كفروا } كذبوا الله ورسوله { يقاتلون في سبيل الطاغوت } قيل: طريق الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقيل هو الكاهن، وقيل: في طاعة كبرائهم { فقاتلوا } جاهدوا أيها المؤمنون { أولياء الشيطان } يعني الذين يتولونه ويطيعونه، وقيل: حزب الشيطان { إن كيد الشيطان } مكره وتدبيره { كان ضعيفا } قيل: تضعف نصرته لأوليائه وكيد الشيطان للمؤمنين إلى حيث كيد الله الكافرين أضعف شيء وأهونه، وقيل: انه أخبرهم بظهور المؤمنين عليهم فلذلك كان كيده ضعيف، وقيل: سماه ضعيفا لضعف دواعي أوليائه إلى القتال لأنه لا نصرة لهم وقوة دواعي المسلمين لأنه تعالى ناصرهم { ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية قيل: نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة في قتال المشركين لما ينالهم من أذاهم فلم يأذن لهم فلما كتب عليهم القتال بالمدينة كع فريق منهم لا شك في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفورا عن الاخطار بالروح وخوفا من الموت وقال فريق منهم ما حكى الله تعالى: { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } وقيل: نزلت في المنافقين { يخشون الناس } معناه: يخشون الناس مثل أهل خشية أي مشبهين لأهل خشية الله { أو أشد خشية } من أهل خشيته وأشد معطوف على الحال { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر كقوله: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق { ولا تظلمون فتيلا } ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على ميثاق القتال، وقيل: لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم ثم رد عليهم فقال تعالى: { أينما تكونوا } في ملاحم حروب أو غيرها ثم ابتدأ قوله: { يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } الوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج: الحصون المشيدة مرتفعة، وقيل: مشيدة بكسر الياء { وإن تصبهم حسنة } والمعنى وان تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله { وإن تصبهم سيئة } بلية من قحط وشك أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك وما كانت إلا سوءتك كما قال الله عن موسى:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه
Page inconnue