{ وليعلم } ويفضل أيضا { الذين نافقوا } أظهروا النفاق مع الله ورسوله { و } ذلك حين { قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله } مع أعداء الله إلى أن تستأصلهم { أو ادفعوا } ضررهم عن المسلمين { قالوا } في الجواب على مقتضى نفاقهم المكنوز في قلوبهم: { لو نعلم } مساواة بينكم، أو مضاعفتهم إياكم بمثلين فنسمي { قتالا } فإذن { لاتبعناكم } بل هم بأضعفكم عددا وعددا وما أنتم عليه، إنما إلقاء النفس في التهلكة لا المقاتلة، فكيف اتبعناكم؟.
{ هم } بإظهار هذا القول { للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } لأن القول مناسب، مطابق لكفرهم المكنون في قلوبهم دون إيمانهم، مجرد القول الذي { يقولون بأفواههم } تلبيسا وتغريرا { ما ليس في قلوبهم } من القبول والإذعان { والله } المطلع لضمائركم { أعلم } منهم، فهم { بما يكتمون } [آل عمران: 167] في قلوبهم من الكمفر والنفاق يجازيهم على مقتضى علمه.
هم { الذين قالوا } من غاية نفاقهم وشقاقهم { لإخوانهم } أي: في حق إخوانهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقتلوا { و } الحال أنهم قد { قعدوا } في مساكنهم، وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لو أطاعونا } هؤلاء المقتولون في القعود والتخلف { ما قتلوا } كما لم نقتل، واعتقادهم أن القعود سبب النجاة، والخروج سبب القتل، ولم يعلم أن للموت أسباب، وللنجاة أسباب لا يدركها إلا هو، وكم من قاعد قد مات وقتل، وكم من خارج قد نجا وإن اقتحم، والعلم عند الله { قل } لهم يا أكمل الرسل تبكيتا إن قدرتهم على الدفع: { فادرءوا } فادفعوا { عن أنفسكم الموت } المقدر لكم من عند الله { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 168] أيها الكاذبون.
[3.169-173]
وبعدما بين سبحانه جرائم المؤمنين يوم أحد، وذلتهم ومتابعتهم للمنافقين في التخلف عن رسول الله، والميل إلى الغنيمة، وترك المركز مع كونهم مأمورين على خلافها، أراد أن ينبه عليهم سرائر الغزو والشهادة فيه، وبذل المهج في سبيله، فقال مخاطبا لرسوله على طريق الكف والنهي؛ لينبه من يقتدي به من المؤمنين؛ لأن أمثال هذه الخطابات والتنبيهات إنما يليق لمن وصل إلى ذورة مسالك التوحيد، وتحقق بنهاية مراتب التجريد والتفريد بقوله: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } باذلين أرواحهم في طريق الفناء؛ ليفوزوا بشرف البقاء { أمواتا } منقطعين عن الحياة والحركة، كالأموات الأخر { بل } هم { أحياء } ذو أوصاف وأسماء أزلية أبدية، مقربين بها { عند ربهم } الجامع لجميع الأوصاف والأسماء { يرزقون } [آل عمران: 169] بها من عنده.
{ فرحين بمآ آتاهم الله } من موائد المعرفة والإحسان بواسطتهما { من فضله } دائما، خالدين فيها { و } مع تلك اللذة والفرح { يستبشرون } يطلبون الباشرة والشفاعة من الله { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } من إخوانهم الذين بقوا من خلفهم في دار الدنيا التي هي دار الخوف والعناء، محل الخطر الفناء، قابلين لهم منادين، منبيهن أن { ألا خوف عليهم } لم يحلقوا بنا { ولا هم يحزنون } [آل عمران: 170] لم يخلصوا عن الدنيا ولوازمها.
بل { يستبشرون } دائما لأنفسهم ولإخوانهمه { بنعمة من الله وفضل } جزاء لما جاهدوا في سيله وفضل مع عطاء منه، وامتنانا عليهم من لطفه { و } اعلموا أيها العاملون؛ لرضاء الله، المجاهدون في سبيله { أن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [آل عمران: 171] الذين بذلوا جهدهم في محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصا.
{ الذين استجابوا } طلبوا الإجابة { لله والرسول } حين دعاهم الله ورسوله إلى المقاتلة { من بعد مآ أصابهم القرح } من العدو بلا مماطلة وتسويف، بل رغبتهم أشد من الكرة الأولى.
وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من المدينة، فبلغوا الروحاء ندموا وقصدوا الرجوع؛ ليستأصلوهم، فبلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبهم، وقال: لا يخرج معنا اليوم إلا من كان معنا أمس.
فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة من المؤمنين حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وكان بأصحابه الفرح والسرور، متلهفين، متحسرين للشهادة، مشتوقين إلى مرتبة إخوانهم الذين استشهدوا في سبيل الله، فمر بهم معبد الخزاعي، وكان مشركا يومئذ، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك وأصاحبك، ثم خرج فلقي أبا سفيان بالروحاء، فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج مع أصحابه، يطلبونكم على مهور لم أر مثلهم في الجراءة أحدا، يتحرقون عليكم تحرقا لو لقيتم، قال أبو سفيان: ويلك! ما تقول؟ قال: والله، ما أراك تحل حتى ترى نواحي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا للكرة عليهم؛ لنستأصل بقيتهم، قال: فإني والله، أنهاك عن ذلك.
Page inconnue