وبعدما صرت ذا وجدان وحال بها، وذقت حلاوتها فزت بغرفان جنة الرضا والتسليم، فحينئذ يترشح في صدرك رشحات بحر الوحدة الذاتية، واستنشقت من نفحات النفسات الرحمانية المهبة من فناء الحضرة الأحدية المصفية من التعينات الهيولانية والتعلقات الطبيعية، فلك ألا تنظر ولا تلتفت بعد ذلك إلى مقتضيات علائق ناسوتك مطلقا، وتجمع همك نحو لوازم لا هوتك، لعل الله ينقذك بفضله عن أغلال أنانيتك وسلاسل بشريتك بمنة وجوده.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-9]
{ طسم } [الشعراء: 1] يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة، ويا طاهر الطينة والطوبة من أدناس الطبيعة البشرية، ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية البشرية، ويا ماحي آثار الرذائل المكدرة لصفاء شراب التوحيد.
{ تلك } الآيات العظام المذكورة في هذه السورة { آيات الكتاب } أي: من جملة آيات القرآن { المبين } [الشعراء: 2] المبين المظهر لدلائل التوحيد، الموضح للبينات والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينكن إنما أنزلناها يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك، فلك أن تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه الذي تلي وأوحي إليك بلا التفات منك إلى إيمانهم وكفرهم، وتصديقهم وتكذيبهم، بل ما عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب.
إلا أنك من فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وكتابك { لعلك باخع } هالك قاتل { نفسك } تحسرا وتحزنا { ألا يكونوا مؤمنين } [الشعراء: 3] أي: لأجل ألا يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك، مع أنا لا نريد إيمانهم وهدايتهم، بل مضى في قضائنا وثبت في حضرة علمنا كفرهم وضلالهم، وما يبدل القول لدينا، ولا يغير حكمنا.
بل { إن } أي: إن تعلق إرادتنا ومشيئتنا لإيمانهم { نشأ ننزل عليهم من السمآء آية } ملجئة لهم إلى الإيمان والتصديق { فظلت أعناقهم } أي: صارت حين نزول الآية الملجئة أعناقهم التي هي أسباب كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد { لها } أي: للآية الملجئة النازلة { خاضعين } [الشعراء: 4] منكوسين منكسرين منخفضين، بحيث لا يتأتى لهم الإعراض عنها والتكذيب بها أصلا.
{ و } متى لم تتعلق مشيئتنا لم يؤمنوا، بل { ما يأتيهم من ذكر } أي: عظة وتذكير نازل { من } قبل { الرحمن } تفضلا عليهم { محدث } مستبدع على مقتضى الأعصار والأزمان؛ لإصلاح نفوس أهلها من المفاسد والضلال { إلا كانوا عنه } أي: عن الذكر المحدث { معرضين } [الشعراء: 5] منصرفين؛ لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم، بل إنما إرسلنا يا أكمل الرسل إليهم، وأمرنا بدعوتهم و تبليغهم؛ ليتعظ ويتذكر منهم ممن سبقت له العناية الأزلية من خلص عبادنا، وتعلقت إرادتنا بهدايتهم ورشدهم في أصل فطرتهم واستعدادهم، وبعدما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذبة لقلوبهم عن رين الكفر والشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم سمعوا سمع قبول ورضاء؛ إذ كل ميسر، موفق لما خلق له.
وأما المجبولون على فطرة الشقاوة، المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال { فقد كذبوا } بها حين سمعوها، ولم يقتصروا على تكذيبها فقط، بل استهزؤوا بها وبك يا أكمل الرسل عتوا واستكبارا، فلا تلتفت إليهم ولا تبال بهم وبإيمانهمم { فسيأتيهم } عن قريب { أنباء ما كانوا به يستهزئون } [الشعراء: 6] فظره حينئذ أحق حقيق بأن ينقاد ويتبع، أم هو باطل يجب تكذيبه والانصراف عنه؟!.
وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، أولئك المعرضون عنادا ومكابرة؟! { أولم يروا } ولم ينظروا ويتفكروا حتى يعتبروا، مع أنهم من أهل النظر والاعتبار { إلى } عجائب { الأرض } اليابسة الجامدة { كم أنبتنا } من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا { فيها من كل زوج } أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعادن و غير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه؛ إذ ما يعلم جنود ربك إلا هو، { كريم } [الشعراء: 7] كلها ذوي الكرامات و البركات، والمنافع والخيرات.
Page inconnue