{ تبارك } وتعالى ربك { الذي } رباك بأنواع الكرامات الخارقة للعادات الشاملة لأصناف السعادات المعدة لأرباب الشهود والمكاشفات، وبالمعجزات الباهرة الدالة على صدقك في جميع ما جئت به من قبل ربك من الآيات البينات، وأنواع الخيرات والبركات { إن شآء } ربك وتعلقت مشيئته وإرادته { جعل لك } يا أكمل الرسل في النشأة الأولى أيضا { خيرا } وأحسن { من ذلك } أي: مما قالوه وأملوه تهكما واستهزاء، ولكن أخره إلى النشأة الأخرى؛ إذ هي خير وأبقى، والتنعم فيها ألذ وأولى؛ إذ هي مؤبدة مخلدة بلا انقطاع ولا انصرام.
ثم بين سبحانه ما هيأ لحيبيه صلى الله عليه وسلم فيها وأعد له من { جنات } منتزهات العلم والعين و الحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية على مقتضى الكمالات الأسمائية والصفاتية { ويجعل لك } أيضا فيها { قصورا } [الفرقان: 10] عاليات متعاليات عن مدارك ذوي الإدراكات مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم من قصور نظرهم وعمى بصرهم وقلوبهم في هذه النشأة لا يلتفتون إلى أمثال هذه الكرامات العلية الأخروية.
{ بل كذبوا بالساعة } الموعودة المعهودة، وجميع ما يترتب عليها من المثوبات والدرجات العلية والدركات الهوية؛ إذ نظرهم مقصور على هذا الأرذل الأدنى { و } ولهذا { أعتدنا } وهيأنا بمقتضى قهرنا وجلالنا { لمن كذب بالساعة } وبالأمور الموعودة فيها { سعيرا } [الفرقان: 11] أي: نارا مستعرة ملتهبة في غاية التلهب والاشتعال؛ بحيث { إذا رأتهم من مكان بعيد } يعني: إذا كانوا بمرأى العين منها مع أنهم بعيدون منها بمسافة طويلة { سمعوا لها } مع بعدها { تغيظا } أي: صوتا كصوت المغتاظ من شدة تلهبها وغليانها { وزفيرا } [الفرقان: 12] أيضا كزفرة المغتاظ، والزفير في الأصل: ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع؛ يعني: من شدة غيظها لهم تغلي وتلتهب تلهبا شديدا، وتردد نفسها ترديدا بليغا حتى يردوا فيها.
[25.13-17]
{ وإذآ ألقوا منها } أي: من النار { مكانا } أي: في مكان من أمكنتها صار { ضيقا } لهم تشدد العذاب عليهم؛ بحيث صار كل منهم من ضيق { مقرنين } قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل والأغلال { دعوا } وتمنوا من شدة حزنهم وكربهم { هنالك ثبورا } [الفرقان: 13] هلاكا وويلا، قائلين صائحين: واثبوراه! واويلاه! تعال تعال! وهذا وقت حلولك ونزولك، ويقال لهم حينئذ: { لا تدعوا اليوم } أيها الجاهلون { ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا } [الفرقان: 14] إذ أنواع العذاب تتجدد عليكم دائما، فاطلبوا الكل منها ثبورا.
{ قل } يا أكمل الرسل موبخا عليهم، ومعيرا بعدما بينت لهم منقلبهم ومثواهم في الآخرة { أذلك } السعير الذي سمعتم وصفه، أو المعنى: أذلك الجنة التي إملتم من جنات الدنيا ومنتزهاتها { خير } مرجعا ومصيرا { أم جنة الخلد } المؤبد المخلد أهلها فيها بلا تبديل وتغيير { التي وعد المتقون } بدخولها حتى { كانت لهم جزآء } لأعمالهم الصالحة التي أتوا بها في النشأة الأولى، وصارت بدلا من مستلذاتها الفانية { ومصيرا } [الفرقان: 15] أي: مرجعا ومنقلبا لهم بعدما خرجوا من الدنيا، مع أن { لهم فيها ما يشآءون } من النعيم المقيم الدائم؛ لكونهم { خالدين } فيها لا يتحولون عنها أصلا؟ لذلك { كان } هذا الوعد { على ربك } يا أكمل الرسل { وعدا مسئولا } [الفرقان: 16] مطلوبا للمؤمنين في دعواهم ومناجاتهم، حيث قالوا في سؤالهم ودعائهم: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك، إلى غير ذلك من الآيات والمناجاة المأثورة من الأنبياء والأولياء.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمتخذين آلهة سوانا، وحذرهم { يوم يحشرهم } ونبعثهم للعرض والجزاء { و } نحشر أيضا { ما يعبدون من دون الله } الواحد الأحد الصمد؛ أي: آلهتهم الذين يعبدونهم كعبادة الله، كالملائكة وعزير وعيسى والجن والكواكب والأصنام، عبر سبحانه عن آلهتهم ب (ما)، مع أن بعضهم عقلاء لعموم (ما)؛ أي: إنها تستعمل في عاقل وغيره، أو للتغليب، أو باعتبار ما يعتقدون ويتخذون آلهة من تلقاء نفوسهم، لا حقيقة لها سوى الاعتبار؛ لأنهم لا يرضون باتخاذهم، وبعدما حشر الآلهة ومتخذوهم مجتميعن { فيقول } الله سبحانه مستفهما للآلهة على سبيل التوبيخ والتبكيت لمتخذيهم: { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } [الفرقان: 17] عن عبادتي، ودعوتموهم إلى عبادة نفوسكم مدعين أنتم الشركة معي؟.
[25.18-20]
{ قالوا } أي: الآلهة مبرئين نفوسهم عن هذه الجرأة والجريمة العظيمة، منزهين ذاته سبحانه عن وهم المشاركة والمماثلة والكفاءة مطلقا: { سبحانك } ننزهك ونقدس ذاتك يا ربنا عن توهم الشركة في ألوهيتك وربوبيتك، بل في وجودك وتحققك { ما كان ينبغي لنآ } ويصح منا { أن نتخذ من دونك من أوليآء } فكيف يليق بنا أن ندعي الولاية لأنفسنا دونك والاشتراك معك، مع أنا لا وجود لنا إلا منك، ولا رجوع لنا إلا إليك، وأنت يا ربنا تعلم منا ما في ضمائرنا وأسرارنا واستعداداتنا ونياتنا في جميع شئوننا وقابلياتنا، وأنت تعلم أيضا منا يا مولانا لا علم لنا باتخاذهم أولياء، ولا إضلال وتقرير من قبلنا إياهم { ولكن متعتهم } أنت بمقتضى فضلك وجودك بأنواع النعم وأصناف الكرم { و } كذا متعت { آبآءهم } كذلك، وأمهلتهم زمانا مترفهين مستكبرين { حتى نسوا الذكر } أي: ذكر المنعم، وغفلوا عن شكر نعمه، واتخذوا على مقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة أربابا من دونك وعبدوها كعبادتك عتوا واستكبارا { و } بالجملة: هم { كانوا } مقدرين مثبتين في لوح قضائك { قوما بورا } [الفرقان: 18] هالكين في تيه الغفلة والضلال، من أصحاب الشقاوة الأزلية الأبدية لا يرجى منهم السعادة أصلا.
ثم قيل للمشركين من قبل الحق: { فقد كذبوكم } آلهتكم أيها الضالون { بما تقولون } أنهم آلهتنا، أو بما يقولون هؤلاء وأضلونا، أو بقولكم: هؤلاء شفعاؤنا { فما تستطيعون } أي: فالآن ظهر ولاح أن آلهتكم وشفعاءكم لا يقدرون { صرفا } من عذابنا شيئا { ولا } يقدرون أيضا { نصرا } لكم؛ لتصرفوا عذابنا عن نفوسكم بمعاونتهم، ولا شفاعة عندنا؛ لتخفيف العذاب عنكم { و } بالجملة: { من يظلم منكم } أيها لامشركون نفسه باتخاذ غيرنا إلها عنادا ومكابرة، ولم يتب عن ذلك حتى خرج من الدنيا عليه { نذقه } الأمر؛ أي: يوم الجزاء { عذابا كبيرا } [الفرقان: 19] لا عذاب أكبر منه.
Page inconnue