ثم قال سبحانه: { والله } القادر المتقدر للإحياء والإماتة { خلقكم } وأظهركم من كتم العدم إظهارا إبداعيا، وإيحاء اختراعيا مقدرا مدة معينة لبقائكم في النشأة الأولى { ثم } بعد انقضاء المدة المقدرة { يتوفاكم } أي: يميتكم ويفنيكم { ومنكم من } يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة، بحيث { يرد إلى أرذل العمر } وأخسه وأسوئه، وإنما يرد بعض التاس إليه { لكي لا يعلم } ويفهم { بعد } تعلق { علم } منه بمعلوم مخصوص { شيئا } من أحوال ذلك المعلوم؛ يعني: يرجع إلى مرتبة الطفولية بعد كمال العقل، وإنما رده سبحاه إظهارا للقدرة الكاملة، وتذكيرا وعبرة للناس؛ لئلا يطلبوا من الله طول الأعمار، وبعد الآجال { إن الله } المدبر لأمور عباده { عليم } بمصالحهم ومفاسدهم { قدير } [النحل: 70] مقدر مقتدر للأصلح لهم تفضلا وامتنانا.
{ والله } المقدر لمصالحكم أيضا { فضل بعضكم على بعض في الرزق } بأن قدر للبعض غنى، وللبعض فقرا، وللبعض كفاية، على حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله، ولوح قضائه، وقدر البعث مالكا للبعض، والبعض مملوكا له { فما الذين فضلوا } بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك { برآدي رزقهم } أي: بعض ما رزقهم الله { على ما ملكت أيمانهم } من المماليك بأن يقدر للماليك في قسمة الله رزق، بل { فهم } أي: المماليك والموالي { فيه } أي: في تقدير الرزق وقسمته { سوآء } أي: كما قدر للملاك قدر للماليك أيضا، غاية ما في الباب: إن الرزق المقدر للمماليك إنما يصل إليهم من يد المولي { أفبنعمة الله يجحدون } [النحل: 71] ينكرون ويكفرون بإسناد أرزاق المماليك إلى الموالي، لا إلى الله الرزاق لجميع العباد.
[16.72-77]
{ والله } المدبر المصلح لأحوال عباده { جعل لكم } تفضلا عليكم { من أنفسكم } أي: من جنسكم، وبني نوعكم { أزواجا } نساءا، تستأذنون بهن، وتستنسلون منهم { وجعل لكم من أزواجكم بنين } ليخلفوا فيكم، ويحيوا أسماءكم { و } جعل لكم من أبنائكم وبناتكم { حفدة } يسرعون إلى خدمتكم وطاعتكم { و } بالجملة: { رزقكم } الله تفضلا عليكم وامتنانا { من الطيبات } العقوبة المقومة لأمزجتكم وبنيتكم؛ لتواظبوا على طاعة الله، وتداوموا الميل إلى جنابه، وتلازموا شكر: نعمه { أ } تتركون متابعة الحق الحقيق بالنعمة، وهو القرآن المعجز، والرسول المبين له { فبالباطل } الذي هو الأصنام والأوثان { يؤمنون } يصدقون ويعبدون { و } بالجملة: { بنعمت الله } النعم المكرم بأنواع الكرم { هم يكفرون } [النحل: 72] حيث صرفوها إلى خلاف ما أمروا يصرفها؛ إذ إعطاء النعم إياهم إنما هو لتقوية طاعة الله، وكسب معارفه وحقائقه، لا لعبادة الأصنام والأوثان الباطلة.
{ و } من خبث باطنهم، وثمرة كفرانهم نعم الله أنهم { يعبدون من دون الله } المالك لأزمة الأمور الجارية في خلال الزمان والدهور { ما لا يملك لهم رزقا } معنويا روحانيا فائضا { من السموت } أي: عالم الأسماء، والصفات على مقتضى الجود الإلهي { و } لا رزقا صوريا جسمانيا معنويا؛ لاكتساب المعارف الروحانية، مستخرجة من { الأرض } أي: معالم الهيولي والطبيعة { شيئا و } هم أيضا { لا يستطيعون } [النحل: 73] لأنفسهم، فكيف لغيرهم؟!.
{ فلا تضربوا } ولا تثبتوا أيها الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه { لله } المنزه عن الأنداد والأشباه { الأمثال } إذ لا مثل ولا شبه ولا كفء، فكيف يشاركون له دونه { إن الله } المطلع لجميع الكوائن والفواسد { يعلم } بعلمه الحضوري جميع أحوالكم، وأحوال معبوداتكم، وما حرى عليكم وعليهم { وأنتم } أيها الغافلون الجاهلون بحق قدره { لا تعلمون } [النحل: 74] منه شيئا، فكيف تضربون له مثلا؟!.
بل { ضرب الله } العالم بجيمع السرائر والخفايا { مثلا } لنفسه، ولمن آثبت المشركون له سبحانه شريكا من الأصنام والأوثان مثل سبحانه شركاءهم { عبدا مملوكا } رقيقا لا مكاتبا { لا يقدر على شيء } من التصرف في مكاسبه بغير إذن مولاه { و } مثل سبحانه نفسه { من رزقناه منا } يعني: من أحرارنا لأرقائهم تفضلا وإحسانا { رزقا حسنا } حلالا وافرا { فهو ينفق } ويتصرف { منه } أي: من رزقه وكسبه { سرا } بحيث لا يطلع على إنفاقه أحد، حتى الفقراء المستحقون { وجهرا } وعلانية على رءوس الملأ.
{ هل يستوون } الأحرار المتصرفون أموالهم بالاستقلال والاختيار، وأولئك العبيد المعزولون عن التصرف رأسا { الحمد لله } على ما أعطانا عقلا نجزم به عدم المساواة بين الفريقين، ونميز به الحق عن الباطل، والهداية عن الضلال { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 75] الفرق بين كلا الفريقين؛ لعدم صرفهم نعمه العقل إلى ما خلق لأجله، وهو الامتياز المذكور.
{ وضرب الله } وهو أيضا { مثلا } لنفسه، ولتك المعبودات الباطلة، فقال: مثلنا ومثلهم مثل { رجلين أحدهمآ أبكم } أي: أخرس وأصم { لا يقدر على شيء } من التفهم والتفيهم { و } كيف يقدر على النفع للغير؛ إذ { هو } في نفسه { كل } ثقل { على مولاه } أي: حافظه ومولي أموره { أينما يوجهه } ويصرفه لطلب المهام { لا يأت بخير } نجح ونيل، وهو مثل الأصنام العاطلة الكليلة التي لا خير فيها أصلا { هل يستوي } أيها العقلاء المميزون { هو } أي: هذا الموصوف بالأوصاف المذكورة { ومن } هو ذو منطق فصيح معرب { يأمر بالعدل } وينال بالخير والحسنى أينما توجهه بنفسه { وهو على صراط مستقيم } [النحل: 76] معتدل مائل عن كلا طرفي الافراط والتفريط المذمومين، وهو مثل لله الواحد الأحد الصمد، المتصرف المستقل في ملكه بالإرادة والاختيار.
ثم أشار سبحانه إلة علو شأنه، وسمو برهانه، وتخصصه باطلاع المغيبات التي لا اطلاع لأحد عليها، فقال: { ولله } خاصة واستقلالا { غيب السموت } أي: ما فيها من جنود الله ومخلوقاته { و } غيب { الأرض } أي: ما عليها أيضا من جنوده، لا اطلاع لأحد منا عليها { ومآ أمر الساعة } الموعودة، وقصة وقوعها وقيامها بالنسبة إلى قبضة قدرته { إلا كلمح البصر } أي: كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في القرب والدنو { أو هو أقرب } أي: بل هو أقرب من رجع الطرف؛ إذ الآن فيه متحقق في سرعة نفوذ فضاء الله بعد تعلق إرادته، الآن موهوم مخيل؛ إلا تراخي بين الأمر الألهي ووقوع المأمور المراد له إلا وهما على ما مر في تفسير قوله سبحانه: { كن فيكون } [البقرة: 117]، ولا يستبعد عن الله سبحانه أمثال هذا { إن الله } المتصف بجميع أوصاف الكمال { على كل شيء } داخل في حيطة حضرة علمه وقدرته { قدير } [النحل: 77] لا ينتهي قدرته دون مقدور أصلا.
Page inconnue