177

ثم لما صدر منما ما صدر بوسوسة عدوهما، أمر سبحانه بإخراجهما عن دار السرور إلى دار الابتلاء والغرور؛ حيث { قال اهبطوا } انزلوا وانحطوا أيها المتجاوزون عن حدودنا أصلا وفرعا، تابعا ومتبوعا عن مقر العز ومرتبة الإطلاق والتجريد الخالي عن جميع الإضافات، والتقييد إلى محل الكون والفساد، ومنزل البغي والعناد؛ إذ { بعضكم } في دار الدنيا التي هي نشأة الاختبار والابتلاء { لبعض عدو } أبدا لا يرتفع الخصومة عنكم أصلا { ولكم } أيها المتخاصمون { في الأرض } أي: مرتع الطبيعة { مستقر } موضع قرار { ومتاع } تمتع من لذاتها وشهواتها { إلى حين } [الأعراف: 24] أي: على انقضاء آجالكم وانقطاع مآلكم.

ثم لما تحيروا واضطربوا في أمرهما وفساد حالهما { قال } سبحانه منبها عليهما: { فيها } أي: في أرض الطبيعة { تحيون } بالحياة الطبيعية { و } أيضا { فيها تموتون } بالموت الطبيعي { ومنها } أيضا { تخرجون } [الأعراف: 25] لجزاء ما كسبتم من الخير والشر، والتقرب والخير، والتبعد في حياتكم الطبيعية التي هي دار الابتلاء ومزرعة الأجر والجزاء، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم قال سبحانه مناديا لكم في مقام الامتنان وتعديد النعم والإحسان؛ لتواظبوا شكر نعمه، وتداوموا على انقياده وإطاعته بعدما صدر عنكم الكفر والخروج عن مقتضى أمره ونهيه: { يبني ءادم } المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة { قد أنزلنا } من مقام جودنا { عليكم لباسا } عقلا مدبرا { يواري } ويستر بتدبيره { سوءاتكم } مقتضيات بشريتكم وبهيميتكم { و } أيضا وهبنا لكم من غاية لطفنا { ريشا } معارف وحقائق نزينكم ونميزكم بها عن جميع المخلوقات، ونستخلفكم بسببها من بين سائر البريات { ولباس التقوى } عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته خير لكم وحقيق لفطرتكم، فعليكم أن تلبسوها وتتحفظوا بها عما لا يليق بمرتبتكم وفطرتكم { ذلك } أي: التقوى { خير } لكم إن أردتم أن تصلوا إلى مرتبة التوحيد التي جبلتم لأجلها { ذلك } أي: المذكور { من آيات الله } الدالة على استقلاله في ألوهيته وربوبيته، إنما أنزلها عليهم { لعلهم يذكرون } [الأعراف: 26] رجاء أن يتذكروا نعمه فيعرفوا المنعم وينكشفوا بتوحيده.

ثم ناداهم وأوصاهم ثانيا بقوله: { يابني ءادم } مقتضى خلافتكم ونيابتكم أن { لا يفتننكم الشيطان } أي: لا يوقعنكم في الغي والضلال بغتة ووسوسة { كمآ أخرج أبويكم } بالفتنة والغرور { من الجنة } هي دال السرور، وأهبطهما بوسوسته إلى الأرض التي هي محل الفساد ومنشأ الشرور حين { ينزع عنهما لباسهما } أي: تسبب للنزع حين تغريرهما وإغرائهما إلى تناول المنهي { ليريهما سوءاتهمآ } انتقاما منهما.

فعليكم أيها الأبناء أن تجتنبوا عن غوائله وتعوذوا إلى الله عن جميع مخايله، وتتخذوه وقاية ووكيلا حتى تتخلصوا عن وسوسة شياطين الأهواء المضلة، وعليكم ألا تغفلوا عنه؛ إذ { إنه } دائما { يراكم } ويراقبكم { هو } إذ الشيطان نفسه { وقبيله } جنوده الأمارة بالسوء رؤية صادرة عن محض العداوة { من حيث لا ترونهم } إذ هم متركزون في نفوسكم التي بين جنبيكم، يضلكم ويغويكم على صورة الهداية والإرشاد، فعليكم أن تخالفوا أهواء نفوسكم وتجانبوا مناها ومشتهياتها، ومع ذلك تضرعوا نحونان وتعوذوا بنا { إنا جعلنا } مقتضى حكتمنا المتقنة { الشياطين أوليآء } مسلطين { للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27] بتوحيدنا واستقلال استيلائنا.

[7.28-31]

{ وإذا فعلوا } أي: هؤلاء الكافرون بوسوسة الشياطين { فاحشة } فعله ذميمة قبيحة متناهية في القبح { قالوا } في الجواب: { وجدنا عليهآ آباءنا } وهم يقولون: { والله أمرنا بها } فيما أنزل علينا على لسان نبينا { قل } يا أكمل الرسل { إن الله } الهادي لعباده { لا يأمر بالفحشآء أتقولون } أيها المفترون { على الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 28] لياقته بجنابه.

{ قل أمر ربي } بمقتضى فضله وعدله على من أمر منه خلص عباده { بالقسط } أي: العدل السوي في جميع مأموراته بلا ميل إلى جانبي الإفراط والتفريط { و } عليكم أيها المؤمنون أن { أقيموا } واستقيموام { وجوهكم } التي بها ميلكم وتوجهاتكم نحو الحق بلا ميل إلى ما سواه { عند كل مسجد } ومقام تتذللون فيه وتتوجهون نحوه { و } بالجملة: { ادعوه } وتوجهوا نحوه حال كونكم مستقيمين فيه { مخلصين له الدين } أي: الطاعة والانقياد بلا شوب الغير والسوى مطلقا، واعلموا أيها الأظلال { كما بدأكم } الله أي: أنشأكم وأظهركم من كتم العدم بمد ظله ورش نوره عليكم { تعودون } [الأعراف: 29] إليه بقبض الظل وطيه في نشأتكم الأولى.

{ فريقا } منكم { هدى } بتوفيق الله إلى مبدئه ومعاده { وفريقا } ضل وغوى لذلك { حق } وثبت { عليهم الضلالة } في مكمن القضاء، وكيف لا يحقيهم ويحيط بهم الضلالة { إنهم } من غاية غفلتهم { اتخذوا الشياطين أوليآء } آلهة { من دون الله } المتوحد بذاته { ويحسبون } بسبب هذا الاتخاذ { أنهم مهتدون } [الأعراف: 30] إلى طريق النجاة بل ضالون تائهون.

{ يابني ءادم } المجبولين على زي التقوى ولباس السلامة { خذوا زينتكم } التي زينكم الله بها من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات { عند كل مسجد } ومقام تميلون فيه نحو الحق وجوهكم التي يلي الحق { و } لا تهملوا أمر مراكبكم التي هي نفوسكم وهوياتكم؛ لئلا تبطلوا صنع الله ولا تخربوا بيته، بل { كلوا } مقدار سد الجوعة { واشربوا } قدر دفع العطشة { ولا تسرفوا } فيهما إلى حيث يؤدي إلى تقوية القوى البهيمية { إنه } سبحانه { لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31] ولا يرضى عن فعلهم لإخلائهم بإسراف الأكل والشرب على الميل الذي جبلوا لأجله؛ إذ الشبع يميت القلب وينقص الغريزة الإنسانية، ويزيد القوى البهيمية.

Page inconnue