يقول مخاطبا لمؤنث: فإن تريني مثل البقرة أو الظبية في حال كوني بارزا للشمس، وفي حال كوني امشي بغير نعل، مع رقة في قدمي يؤلمني المشي بسببها، ولا أتكلف مع ذلك لبس النعال.
وجواب الشرط في قوله:
فإني لمولى الصبر أجتاب بزه ... على مثل قلب السمع والحزم أفعل.
مولى الصبر: وليه وحليفه. واجتياب البز-أي السلاح هنا-: لبسه، كاجتياب القميص. والسمع-بالكسر والعين المدملة-ولد الذئب من الضبع، وهو أخبث حيوان يضرب به المثل في سدة العدو، وفي شدة السمع فبقولون: "أسمع من سنع" و"من السمع الأزل". من الأول قول الشنفرة هذا في مرثية خاله تأبط شرا:
مسبل في الحي أحوى رفل ... وإذا يغزو فسمع أزل. ﴿الرمل﴾
والحزم: الضبط والأخذ في الأمور بالأحوط، وهو منصوب مفعول مقدم "بأفعل" مضارع "فعلت".
والمعنى: إن تريني كما ذكر فإني لحليف الصبر، أي ملازمه، في حال كوني ألبس سلاحه على قلب مماثل لقلب ولد الذئب الذي أمه ضبع، وناهيك بقوته وجرأته، وافعل الحزم في الأمور، وأحتاط فيها، فلا تفريط عندي ولا إضاعة.
وأعدم أحيانًا وأغنى وإنما ... ينال الغنى ذو البعدة المتبدل.
الإعدام: الافتقار. وأغنى-بالفتح-مضارع "غني" بالكسر بمعنى: استغنى والبعدة -بالضم كالرحلة-: السفرة. والمتبذل: الذي يتكلف ابتذال نفسه: أي امتهانها.
يقول: أفعل الجزم، وافتقر أزمنة الدهر، واستغني كذلك، وما يدرك الغنى إلا صاحب السفر الذي يتكلف امتهان نفسه بالاغتراب عن الأهل، وقطع المفاوز والقفاز. وفي هذا الحث على استعمال الأسفار والتحذير من ملازمة الفرار، فإنه عين الافتقار.
فلا جزع من خلة متكشف ... ولا مرح تحت الغنى أتخيل.
الجزع-بنزة الفرح- الذي جزع بالكسر: أي ذهب صبره، والمصدر "الجزع" بالتحريك. والخلة-بفتح الخاء المعجمة-الحاجة والفقر والمتكشف: المظهر لحاجته. والمتخيل: المظهر الخيلاء.
قوله: "جزع" خبر مبتدأ محذوف، أي: "فلا أنا فاق الصبر من أجل احتياج عرض لي، مظهر لاحتياجي، ولا أنا مرح، أي ذو مرح-بالتحريك-أي بطر. وهو الخروج عما تقتضيه النعم من الشكر عليها لعدم احتمال النفس لذلك.
فقوله: "تحت الغنى أتخيل" منصوب على الحال من "مرح" وهذه من الأحوال الأزمة للمدح.
والمعنى: ولست بمرح في حال كوني مختالا تحت الغنى، أي لأجله، وهذا معنى مطروق جدا.
وحاصله أن الدهر يومان، يوم له، ويوم عليه، فإن كان عليه لم يضجر، وإن كان له لم يبطر، لاعتياده بكل من نعيمه وبؤسه، وسعته وضيقه، وشدته ورخائه، مهذب مجرب كالجذيل المحكك، والعذيق المرجب.
ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى ... سؤولًا بأعقاب الأقاويل أنمل.
الحلم: الأناة وازدهاؤه: استخفافه. والأجهال: جمع جهل، و"أرى": مبني لما يسم فاعله، أي: لا أوجد وألف. والسؤول: الذي يكثر السؤال، والأقاويل: جمع أقوال، جمع قول. "وأنمل" -بالضم- مضارع "نمل" بالفتح.
ثم يقول: لا تستخف الأجهال علي حلمي، ولا تحرك سكوني، ولا يلفيني أحد مكثرا لسؤال الناس في حال كوني أنم بأعقاب الأقاويل: أي أواخرها. أي أنفلها إلى الغير على وجهة الإفساد بينه وبين من نسبة له. وسميت هذه الأقاويل أعقابا لتأخرها عن الاعتبار، والاعتداد بها عن ذوي الهمم والله أعلم. أو لأن الذي يحفظ وينقل هو أخر ما يقال في الغالب. فباء "بأعقاب" متعلقة ب "أنمل" على ما قررنا.
وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل.
النحس هنا: الشؤم والشدة. والاصطلاء: التسخن بالنار. واصًطلاء القوس: اصطلاء النار التي أوقدت بالقوس. والأقطع: جمع قطع -بالكسر- وهو هنا السهم والتنبل: تكلف الرمي بالنبل، ولا واحد للنبل من لفظه وقيل: واحده نبلة.
والتقدير: ورب ليلة شؤم، وشدة برد، موصوفة بما ذكر من الاصطلاء بالنار الموقدة بأعواد القوس التي لا غنى لصاحبها عنها، لعدم ما يوقد به النار سواها وسوى سهامها التي يتكلف الرمي بها نبالا.
ويصح-وهو الأولى إن شاء الله-أن يكون معنى "يتنبل" يصير نبيلا، صاحب نبل-بالضم-أي ذكاء وحذقا. ولا شك أن إجادة الرمي بالقوس من أمثل ما يدخل به الإنسان في زمرة النبلاء كالفروسة والسباحة.
1 / 13