على مدار عقود، تطورت تقنيات طبية غير جراحية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي وتحليل تخطيط كهربية الدماغ؛ فمنحت الباحثين القدرة على «رؤية» النشاط الفيزيائي والكهربي في الدماغ في أثناء تنفيذه للمهام. ومثلما هو الحال في علم نفس النمو، قدم مجال علوم الدماغ الجديد أفكارا أساسية، مثل العمليات الفيزيائية المعنية بتشفير الذكريات واسترجاعها، وكان لهذه الأفكار دور مهم في فهمنا لطريقة التفكير.
أسهمت الأبحاث التي أجريت بشأن كيفية عمل الدماغ أيضا في وضع طرق تدريس، مبنية على الأدلة التي جمعت بشأن الطريقة التي يبدو أن الدماغ يعمل بها. فعلى سبيل المثال، بينما رأى ديوي نجاحا كبيرا في الأنشطة التي كانت تستلزم من الطلاب استخدام المعلومات والأفكار التي فهموها مسبقا، قدمت الأبحاث في مجال تكوين الذاكرة أدلة علمية على فاعلية البناء على معرفة سابقة.
21
أسهم رائدان آخران بأفكار قيمة عن كيفية عمل العقل البشري؛ وهما عالما النفس الإسرائيليان دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي، اللذان شككت أبحاثهما المبتكرة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته في فاعلية التفكير المنطقي ذاته واستقراره.
منذ زمن أرسطو ساد الافتراض بأن التفكير المنطقي هو ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات. وبناء على هذا الفهم، كان السلوك البشري غير العقلاني يعزى إلى غلبة العواطف أو الغرائز الحيوانية البدائية على التفكير المنطقي. بالرغم من ذلك، فحسبما أوضح كانمان وتفيرسكي من خلال سلسلة من التجارب المثيرة للاهتمام، فإن تفكيرنا المنطقي معيب من عدة مناح مهمة.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات. تسمى تلك الطرق المختصرة «الحدس المهني» ومن المحتمل أنها نتجت عن الانتقاء الطبيعي. إذا آمن إنسان بدائي من دون أدلة مقنعة أن صوت الحفيف في الأدغال على سبيل المثال، يدل على اقتراب حيوان مفترس، فقد كان سيحظى بميزة تطورية يتفوق بها على من قرروا أن الموقف يحتاج إلى مزيد من الدراسة قبل اختيار الفرار أو البقاء.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات.
لكن هذه الطرق المختصرة نفسها تخلق تحيزات قد تتسبب في فشل التفكير المنطقي. على سبيل المثال، يذكر كانمان في كتابه الأكثر مبيعا «التفكير السريع والبطيء»، إحدى هذه التحيزات ويسمى «تأثير الارتساء».
يحدث هذا التأثير عندما يضع الناس قيمة معينة لكمية مجهولة قبل تقدير تلك الكمية ... إذا سئلت عما إذا كان عمر غاندي عند موته 114 سنة، فسينتهي بك الأمر إلى تقدير عمره عند موته بقيمة أعلى كثيرا مما لو كان سؤال الارتساء يشير إلى موته في سن الخامسة والثلاثين. وإذا فكرت في الثمن الذي ينبغي دفعه لشراء منزل ما، فستتأثر بالسعر المطلوب. إذا كان السعر المدرج مرتفعا، فستبدو قيمة المنزل ذاته أعلى مما لو كان السعر منخفضا، حتى وإن كنت عازما على مقاومة تأثير هذا الرقم ... إن أي رقم يطلب منك اعتباره حلا محتملا لإحدى مسائل التقدير سيحفز تأثير الارتساء.
22
Page inconnue