La Pensée, un Devoir Islamique
التفكير فريضة إسلامية
Genres
فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني، وأما سائر النظار - من جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم - فعندهم: إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر، وأبي إسحق، وابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وإمام الحرمين، والنسفي، وأبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار، والطوشي، ومحمد بن الهيثم وغيرهم.
ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم، وهم إذا تدبروا وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية ...» •••
فهذا وما جرى مجراه من كلام الإمام ابن تيمية تصحيح للمنطق، وتحرير للعقل من قيود المصطلحات التي تعوقه عن النظر السليم، ولا تطلقه على سوائه، ووجهته أن المنطق مقيد بالعقل، وليس العقل مقيدا بالمنطق كما جعله المقلدون من عباد الألفاظ، وأصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة.
ومن إحاطة هذا الإمام الثبت بفنون البحث أن يستقصيه إثباتا ونفيا في كل باب من أبوابه، وعلى كل منهج من مناهجه، سواء منها ما شاع في عصره، وما ندر في ذلك العصر وشاع في الزمن الأخير حتى حسبه بعضهم من مخترعات العصر الحديث؛ كالاستقراء الذي يشبه الإحصاء، والمقارنة بالأرقام والمقادير.
فمن حججه على أدعياء المنطق وأصحاب الجدل مشاهدات الواقع وإحصاءاته المحسوسة التي أثبتت له قلة جدوى المصطلحات المنطقية في الفهم والتفاهم، والتوفيق بين الآراء وتقريب العقول من الإقناع والاقتناع، قال في كتابه نقض المنطق: «إنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعف الناس علما ويقينا. وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا، وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل.
ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال؛ ولهذا تجد غالب حججهم تتكفأ؛ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر، وقد قيل: إن الأشعري - مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك - صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام؛ فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها.
وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: «أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام». وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب - باب الحيرة والشك والاضطراب - لكن هو مسرف في هذا الباب، بحيث إنه يتهم في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق، لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض؛ بل لا بد فيه من نوع من الحق.
وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي، كان يقول: أستلقي على قفاي، وأضع الملحفة على نصف وجهي، ثم أذكر المقالات، وحجج هؤلاء وهؤلاء، واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى مطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء؛ ولهذا أنشد الخطابي:
حجج تهافت كالزجاج تخالها
حقا وكل كاسر مكسور
Page inconnue