وعلى العكس من ذلك، فإن كل تقدم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة إنما كان مرتبطا - بطريق مباشر أو غير مباشر - بالعلم، وإذا كان من المعترف به أن وجه الحياة على هذه الأرض قد تغير - خلال الأعوام المائة الأخيرة - بأكثر مما تغير خلال ألوف الأعوام السابقة؛ فإن الفضل الأكبر في ذلك إنما يرجع إلى المعرفة العلمية، ويرجع - قبل ذلك - إلى وجود شعوب تعترف بأهمية هذا اللون من المعرفة وتقدم إليه كل ضروب التشجيع.
واليوم لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانا على خريطة العالم المعاصر إلا أن يحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به، وكما قلت من قبل: فليس التفكير العلمي هو حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسا على العقل والبرهان المقنع - بالتجربة أو بالدليل - وهي طريقة يمكن أن تتوافر لدى شخص لم يكتسب تدريبا خاصا في أي فرع بعينه من فروع العلم، كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص توافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير، واعترف بهم المجتمع بشهاداته الرسمية، فوضعهم في مصاف العلماء. ولعل الكثيرين منا قد صادفوا - على سبيل المثال - ذلك النمط من التجار الذين لم يكن لهم من الدراسة العلمية المنظمة نصيب، ولكنهم يدبرون شئونهم في حياتهم العملية - وربما في حياتهم الخاصة أيضا - على أساس نظرة عقلانية منطقية إلى العالم وإلى القوانين المتحكمة فيه، دون أن يكون لديهم أي وعي بالأسس التي تقوم عليها نظرتهم هذه، وفي الوجه المقابل لذلك فلقد رأيت بنفسي أشخاصا يعدهم المجتمع من العلماء - منهم من وصل في الجامعة إلى كرسي الأستاذية - يدافعون بشدة عن كرامات ينسبونها إلى أشخاص معينين (ليسوا من الأولياء ولا ممن عرفت عنهم أية مكانة خاصة بين الصالحين)، تتيح لهم أن يقوموا بخوارق كاستشفاف أمور تحدث في بلد آخر دون أن يتحركوا من موضعهم، أو تحقيق أمنياتهم بصورة مادية مجسمة بمجرد أن تطرأ على أذهانهم هذه الأمنيات، وفي أحيان معينة، عبور البحر سيرا على الأقدام! تلك بالطبع حالات شاذة متطرفة، لا يمكن أن تعبر عن وجهة نظر «فئة» كاملة، ولكنها في تطرفها تساعد على إثبات ما نقوله من أن التفكير العلمي شيء وتكديس المعلومات العلمية شيء آخر.
أما على مستوى المجتمعات البشرية، فقد أصبحت النظرة العلمية ضرورة لا غناء عنها في أي مجتمع معاصر لا يود أن يعيش في الظل بين سائر المجتمعات. وحسبنا أن نشير إلى أن مبدأ التخطيط - وهو مبدأ أساسي حاولت بعض الأنظمة الاجتماعية إنكار أهميته في بادئ الأمر ولكنها اضطرت إلى تطبيقه على نطاق واسع فيما بعد - هذا المبدأ إنما هو تطبيق مباشر لمفهوم التفكير العلمي المنهجي من أجل حل مشكلات المجتمع البشري، ولقد أصبح من المألوف في عالمنا المعاصر أن نسمع تعبيرات كالتخطيط الاقتصادي أو الخطة الاقتصادية والتخطيط الاجتماعي والتخطيط التربوي والعلمي والتخطيط الثقافي، وكلها تعبيرات تدل على اعتراف المجتمع الحديث بأن ميادين أساسية للنشاط البشري - كالاقتصاد والشئون الاجتماعية والتربية والعلم والثقافة - أصبحت توجه بطريقة علمية منظمة، بعد أن كانت تترك لتنمو على نحو تلقائي، أو تخضع لتنظيمات مؤقتة تغيب عنها الصورة الشاملة للميدان بأكمله، وتسري خلال وقت محدود فحسب. وكل نجاح يحرزه التخطيط في عالمنا المعاصر إنما هو نجاح للنظرة العلمية في تدبير شئون الإنسان، بل إن العلم تغلغل بادئ الأمر في ميادين ظل الناس طويلا يتصورون أنها بمنأى عن التنظيم المنهجي والتخطيط المدروس؛ فنحن نسمع اليوم عن دعاية سياسية «علمية » استطاعت بفضلها الدول أن تنشر المبادئ والأفكار التي ترى من مصلحتها نشرها - إما بين أفراد شعبها وإما بين أفراد الشعوب الأخرى - بطريقة مدروسة تؤدي إلى تيسير قبول العقول لهذه المبادئ وإضعاف قدرتها على مقاومتها بالتدريج، ومنذ الوقت الذي افتتح فيه «جوبلز» - الوزير النازي المشهور - عهد الدعاية «العلمية»، لم تعد هناك دولة حديثة إلا وتلجأ - بصورة أو بأخرى - إلى تلك الأساليب المنظمة المدروسة في الإقناع وتشكيل العقول. وقل مثل هذا عن أعمال التجسس ونشاط أجهزة المخابرات التي أصبحت لها مدارس ومناهج منظمة، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الفردي، وأصبحت تستعين بأحدث الكشوف العلمية وبأكبر عدد من العلماء المتخصصين؛ كيما تؤدي عملها على نحو فعال.
وإذا كان العلم في الميدانين السابقين يستخدم على نحو قد يتعارض أحيانا مع القيم الإنسانية الشريفة، فإنه في ميادين أخرى يستخدم على نحو يثري روح الإنسان أو يزيد من قدراته الروحية الجسمية. في ميدان الفنون أتيح للأجيال التي تعيش في القرن العشرين أن تتلقى دروسا وتدريبات - في ميادين الإبداع أو الأداء الفني - لم تكن متاحة إلا على نطاق ضيق للأجيال السابقة، وكان من نتيجة ذلك اتساع ثقافة الفنان وإلمامه بأصول فنه، وبلوغ الفنون الأدائية (كالموسيقى والرقص والتمثيل) مستويات تصل أحيانا إلى حد الإعجاز. كذلك أصبحت الرياضة البدنية علما بالمعنى الصحيح، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الشخصي، وتمكن الإنسان - بفضل التدريب المنهجي المدروس - من بلوغ نتائج كانت تدخل من قبل في باب المستحيلات، وهكذا أصبحت حياة المجتمعات الحديثة - في سياستها وحربها وسلمها وجدها ولهوها - منظمة تنظيما علميا منضبطا ودقيقا، ولم يعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التي كانت سائدة في عصور ما قبل العلم. وإذا كنا - في الشرق بوجه خاص - نسمع بين الحين والحين أصواتا تحن إلى العهد التلقائي في أي ميدان من الميادين، فلنكن على ثقة من أن أصحاب هذه الدعوات إما مغرقون في رومانسية حالمة، وإما مدفوعون بالكسل إلى كراهية التنظيم العلمي الذي لا ينكر أحد أنه يتطلب جهدا شاقا. وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فقد آن الأوان لأن نعترف - في شجاعة وحزم - بأن عصر التلقائية والعشوائية قد ولى، وبأن النظرة العلمية إلى شئون الحياة في ميادينها كافة هي وحدها التي تضمن للمجتمع أن يسير في طريق التقدم خلال القرن العشرين، وهي الحد الأدنى الذي لا مفر من توافره في أي مجتمع يود أن يكون له مكان في عالم القرن الحادي والعشرين، الذي أصبح أقرب إلينا مما نظن، وإذا كان بعض من يعيشون معنا في الربع الأخير من القرن العشرين غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة الأمور، وإذا كانوا لا يزالون يضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم، فليفكروا لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيعيش فيه أبناؤهم، ومن هذه الزاوية فإني أعد هذا الكتاب محاولة لإقناع العقول - في عالمنا العربي - بأن أشياء كثيرة ستفوتنا لو امتثلنا للاتجاهات المعادية للعلم، وبأن مجرد البقاء في المستقبل - دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير - سيكون أمرا مشكوكا فيه.
مارس 1977
فؤاد زكريا
الفصل الأول
سمات التفكير العلمي
لم يكتسب التفكير العلمي سماته المميزة - التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة - إلا بعد تطور طويل، وبعد التغلب على عقبات كثيرة، وخلال هذا التطور كان الناس يفكرون على أنحاء متباينة، يتصورون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولكن كثيرا من أساليب التفكير اتضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. وهكذا يمكننا أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي تتسم بها المعرفة العلمية، أيا كان الميدان الذي تنطبق عليه، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان، ونستطيع أن نتخذ من هذه الخصائص مقياسا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، فما هي هذه السمات الرئيسية؟ (1) التراكمية
العلم معرفة تراكمية، ولفظ «التراكمية » هذا يصف الطريقة التي يتطور بها العلم والتي يعلو بها صرحه؛ فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء ينتقلون إلى الطابق الأعلى؛ أي إنهم كلما شيدوا طابقا جديدا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السفلى لتكون مجرد أساس يرتكز عليه البناء.
Page inconnue