فهناك حدس حسي، نقصد به إدراكنا العادي بحواسنا، فحين أدرك الآن أن الحائط الذي أراه أمامي أبيض اللون، يكون ذلك حدسا حسب المصطلح الفني؛ لأنني أدرك هذا الحائط إدراكا مباشرا، فأنا لم «أستنتج» أنه أبيض، ولم يقل لي أحد أنه كذلك، وإنما أراه بحواسي مباشرة. (2)
وهناك حدس في المجال العقلي، نقصد به وصول العقل مباشرة إلى النتيجة المطلوبة، وكل من درس مقررا بسيطا في الهندسة يعلم أن هناك طريقتين لحل تمرين هندسي؛ الأولى هي أن يفكر المرء في «معطيات» التمرين ويحللها واحدا واحدا، ويسير بخطوات متدرجة حتى يهتدي أخيرا إلى الحل. والثانية هي أن تأتي فكرة الحل أو تهبط على العقل من أول لمحة بلا تحليل وبغير تدرج، ولا تستخدم الخطوات المتدرجة إلا في طريقة «تدوينه» لهذا الحل المباشر فحسب؛ فهنا يكون الحدس نوعا من المعرفة التي لا نحتاج فيها إلى استدلال أو استنباط، بل تأتي مرة واحدة وبصورة مكتملة تغنينا عن أية خطوات وسطى. (3)
وهناك حدس في المجال العاطفي؛ وذلك حين يشعر المرء بالتعاطف أو التنافر مع أشخاص معينين من النظرة الأولى، دون أن يكون قد عرفهم أو سمع عنهم شيئا، ومثل هذا الحدس - الذي يشبه ما يسمونه «بالحاسة السادسة» عند المرأة - قد يكون صوابا أو خطأ، وقد تؤيده الخبرة والتجربة فيما بعد أو تكذبه، ولكن الذي يهمنا أنه - بدوره - شعور أو عاطفة مباشرة، يصدر الحكم فيها على الفور ودون خطوات متدرجة. (4)
وهناك حدس في المجال الصوفي؛ وذلك حين يؤكد المتصوف أن لديه معرفة بالله تختلف عن تلك المعرفة الاستدلالية المتدرجة التي نصل إليها عن طريق «البراهين» العقلية؛ فهو يشعر «بحضور» الله مباشرة فيه، وهو يصل إلى الفناء في الذات الإلهية في تلك اللحظات القليلة التي يستحيل وصفها بلغة الكلام، والتي لا يحس بها إلا من مر بالتجربة ذاتها. وهنا أيضا نجد نوعا من المعرفة المباشرة التي لا تستخدم براهين أو استدلالات، والتي توصلنا إلى الهدف مباشرة بطريق مخالف للطريق العقلي المتدرج. (5)
وأخيرا فهناك ذلك الحدس الفني الذي تحدثنا عنه في البداية، والذي يطلق عليه عادة اسم «الإلهام»، وأهم ما يميزه هو الظهور المفاجئ والمباشر لفكرة العمل الفني أو لموضوعه في ذهن الفنان.
هذه المعاني كلها تشترك في ثلاثة عناصر رئيسية يتميز بها الحدس، من حيث هو طريقة في معرفة الأشياء، عن غيره من طرق المعرفة: (أ)
فهو معرفة «مباشرة»، لا تحتاج إلى وسائط ولا تسير بالتدريج من خطوة إلى أخرى. (ب )
وهو ينقلنا مباشرة إلى «لب» الموضوع الذي نريد أن نعرفه أو إلى جوهره الباطن، بدلا من أن يكتفي بتقديم أوصاف خارجية أو سطحية لهذا الموضوع، أو يقتصر على معرفته من خلال مقارنته بغيره. (ج)
وهو في جوهره معرفة «فردية»؛ أي إنه يتاح لشخص بعينه، لا لأي شخص آخر. وهو يتطلب «تجربة» من نوع خاص، يصعب نقلها عن طريق الوصف إلى الآخرين (حتى في حالة الإدراك الحسي يستحيل نقل ما تراه العين إلى غير المبصر نقلا أمينا وكافيا)، ويصعب تلقينها أو تعليمها لهم، ويستحيل أن «نعممها» على الجميع.
على هذا الأساس كان هناك دائما من يتصور أن طريقة المعرفة المثلى لدى الإنسان ليست هي طريقة استخدام البراهين أو الأدلة العقلية، بل هي الحدس المباشر الذي يوصلنا إلى اللب الباطن للموضوع الذي نريد معرفته.
Page inconnue