السبب الفاعل؛ أي إن صانع السرير أو النجار هو سببه. (د)
السبب الغائي؛ أي إن الغاية من السرير - وهي استخدامه في النوم - سبب من أسبابه.
ومن الواضح أن هذا التحديد لمعاني كلمة «السبب» وأنواع الأسباب ينطوي على خلط شديد؛ إذ إن «المادة» التي يصنع منها الشيء ليست إلا أداة لا سببا، كما أن «الصورة» هي فكرة في الذهن، لا تنتج شيئا في العالم المحسوس بصورة مباشرة، أما الغاية فلا يأتي دورها إلا بعد أن يتم إيجاد الشيء أو الظاهرة بالفعل؛ فاستخدام السرير يحدث بعد صنع السرير، ومن هنا لم يكن من المعقول أن تكون هذه الغاية سببا، وهكذا يتبقى لدينا في النهاية نوع واحد من الأنواع الأربعة التي تحدث عنها أرسطو، هو السبب «الفاعل» وهو النوع الذي يمكن الاعتراف به.
والواقع أن «السبب الغائي» يستحق وقفة خاصة؛ إذ إنه كان من أهم عوامل تشويه التفكير في موضوع السببية، بل في العلم بأسره؛ ذلك لأن الأذهان قد اتجهت إلى البحث في كل ظاهرة عن «الغايات» المقصودة منها، فكانت النتيجة أنها تصورت الحوادث الطبيعية بل والعالم كله، كما لو كانت تستهدف «غايات»، وكأنها تسير في طريق يؤدي إلى تحقيق رغبات بشرية معينة أو إلى معاكسة هذه الرغبات، وكان من المستحيل أن يقوم علم حقيقي في ظل هذا التصور «الغائي» للطبيعة؛ لأنه يصرف الأنظار عن كشف الأسباب الحقيقية، ويوجهها نحو طبع الصورة البشرية على أحداث الطبيعة. وعلى أية حال فهذه مسألة عولجت بمزيد من التفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب.
1
لذلك كان من الطبيعي أن تستبعد كل أنواع الأسباب الأخرى - وخاصة الأسباب الغائية - من مجال العلم الحديث عند بداية ظهوره؛ بحيث يقتصر البحث على «الأسباب الفاعلة»، وتظهر الطبيعة على أنها سلسلة متشابكة من الحوادث التي يؤثر كل منها في الأخريات ويتأثر بها، وترتبط فيما بينها برابطة السببية، وأصبح هدف العلم هو أن يكشف - بأساليب مقنعة للعقل - عن الأسباب المتحكمة في الظواهر؛ من أجل السيطرة عليها عقليا بالفهم والتعليل، وعمليا بالتشكيل والتحوير، وكان لتقدم العلوم الرياضية واستخدامها في التعبير عن قوانين العالم الطبيعي دور كبير في دعم فكرة السببية في أول عهد العلم الحديث؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر،
2
إذ أصبح الاعتقاد سائدا بأن حوادث الطبيعة المادية تترابط فيما بينها برابطة لا تقل ضرورة عن تلك التي تجمع بين طرفي معادلة مثل 2 + 2 = 4، فإذا كانت هناك نار «فمن الضروري» أن تكون هناك حرارة، مثلما أنه إذا كان هناك مثلث «فمن الضروري» أن يكون مجموع زواياه قائمتين. وهكذا كان العلم المزدهر في ذلك العصر هو الفيزياء الميكانيكية، التي هي أكمل تعبير عن فكرة الترابط السببي بين ظواهر الطبيع؛ إذ إن العالم يعد عندئذ آلة ضخمة، تترابط أجزاؤها بقانون الفعل ورد الفعل، وتنتقل الحركة من جزء إلى آخر وإن ظل المجموع الكلي للحركة في الكون واحدا، ويصبح القانون المسيطر على كل شيء والذي يتوقف عليه مصير العلم هو قانون السببية. على أن العلماء كانوا يستخدمون فكرة السببية دون تحليل، فلم يفكر أحد منهم في إيضاح معنى «السبب » وطبيعة العلاقة التي تربط بين السبب وما ينتج عنه، وكان الاهتمام الكبير الذي أبدى بفكرة السببية في مطلع العصر الحديث - نتيجة لسيطرة النظرة الميكانيكية إلى العالم - هو الذي دعا أحد فلاسفة هذا العصر - وهو «ديفد هيوم»
David Hume - إلى القيام بتحليل فلسفي لمفهوم السببية، انتهى منه إلى نتيجة كانت لها من الناحية السببية أصداء عميقة؛ فقد انطلق هيوم من المفهوم الذي أوضحناه من قبل، والذي كان سائدا في العلم الميكانيكي؛ أي في أهم علوم عصره، وأعني به أن العلاقة بين السبب والنتيجة فيها من الضرورة بقدر ما في العلاقة بين المثلث ومجموع زواياه، وتبين له - من خلال تحليله الفلسفي - أن المسألة في حقيقتها على خلاف ذلك؛ فمن المستحيل أن تكون هناك ضرورة حتمية بين الحوادث الطبيعية ونتائجها؛ أي بين ارتفاع نسبة الرطوبة وسقوط المطر مثلا. صحيح أننا نقول: إن الأول سبب الثاني، ولكن هل يعني ذلك أن هناك قوة خفية في الحادث الأول تؤدي إلى وقوع الحادث الثاني؟ وهل تقوم الرطوبة بإسقاط المطر، مثلما نقوم نحن - بجهدنا البشري - بصنع أشياء؟ الواقع أن الأسباب الموجودة في الطبيعة لا تتضمن أية قوى تنتج شيئا، ولا توجد أية ضرورة تحتم سقوط المطر بعد ارتفاع نسبة الرطوبة، وكل ما في الأمر أننا «اعتدنا» أن نرى الظاهرتين تتعاقبان، فنشأ عن هذا التعاقب المتكرر ميل ذهني لدينا إلى الربط بينهما؛ بحيث إننا كلما رأينا الظاهرة الأولى توقعنا الثانية؛ فالخبرة والتجربة البشرية تكشف لنا عن أن الطبيعة لا تتضمن إلا أحداثا متعاقبة، ونحن الذين نربط بين هذه الحوادث المتعاقبة نتيجة التعود، بحيث يكون أصل الضرورة في عقولنا نحن التي يدفعها التعود إلى توقع شيء بعد شيء آخر. أما الطبيعة ذاتها فلا تتضمن حوادثها أي ارتباط ضروري من ذلك الذي نجده في الرياضيات.
وهكذا اعتقد «ديفيد هيوم» أن الأساس الأول للعلم - وهو فكرة السببية - بات مزعزعا نتيجة هذا التحليل الذي قام به، ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا التحليل لا يمتد تأثيره إلا إلى ميدان التفكير الفلسفي فحسب، أما الممارسات العلمية فلا تتأثر به؛ ذلك لأن العالم يستطيع أن يمضي في طريقه دون أن يغير اتجاهه، سواء أكان معنى السببية هو الارتباط الضروري، أم كان معناها مجرد التعاقب؛ لأن هذه مسائل تتعلق بالجذور الفلسفية للمفاهيم العلمية، وما يهم العالم هو استخدام المفهوم على ما هو عليه، أما استخلاص معانيه وأسسه وجذوره، فتلك مهمة الفيلسوف وحده.
Page inconnue