[مقدمات التحقيق]
(الرسائل الأدبيّة) (رسائل الجاحظ) (تأليف أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الملقّب بالجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ هـ-/ ٨٦٨ م) قدّم لها وبوّبها وشرحها الدّكتور علي أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت- صرب ٥٠٠٣/١٥
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأخيرة ٢٠٠٢ م
1 / 4
مقدمات عامة
هذه احدى وعشرون رسالة من مؤلفات الجاحظ الكثيرة التي ضاع معظمهما ولم يصلنا منها سوى ربع عددها تقريبا. وما وصلنا منها ليس كاملا الا في أقله.
وقد اطلقنا على هذه المجموعة اسم الرسائل الأدبية لا بالمعنى الذي نفهمه اليوم من الأدب، أي ذلك الفن الجميل الذي يغلب عليه الخيال والعاطفة، ولكن بالمعنى الذي فهمه الجاحظ نفسه في قوله «والأدب اما خلق واما رواية، وقد اطلقوا له اسم المؤدب على العموم» (المعلمين) . فالأدب يعني الاخلاق كما يعني رواية العلم او نقله بين الاجيال بواسطة المؤدب او المعلم، والكتاب.
ان الجاحظ لم يكتب ادبا خالصا او صافيا الا فيما ندر. لقد كان رجل فكر في المرتبة الأولى ورجل ادب في المرتبة الثانية. ولقد عبر عن فكره باسلوب أدبي، فجمع بذلك بين الفكر والأدب. ولكن دارسيه المعاصرين اقتصروا على الناحية الادبية عنده ولم يفطنوا او لم يهتموا بالناحية الفكرية وهي الناحية الأهم والغالبة عليه. وهذا ما قمنا به في كتابنا «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» .
1 / 5
وتدور هذه الرسائل حول خمسة موضوعات اساسية: فموضوع الاخلاق المحض يغلب على ثلاث رسائل هي «كتمان السر وحفظ اللسان»، و«الحاسد والمحسود»، و«النبل والتنبل وذم الكبر» . ونلفي الجاحظ فيها يحلل هذه الخصال الخلقية تحليلا نفسيا يمتاز بالدقة والعمق، وينطلق من مبدأ خلقي واحد يقول ان الاخلاق طباع في الناس. فهي تولد معهم ويحملونها بالفطرة ولا تكتسب اكتسابا بالتربية والتعليم. وفي هذا يخالف ارسطو والفلاسفة المشائين.
والموضوع الثاني الذي يحتل حيزا كبيرا في هذه المجموعة هو الاجتماع وهو يغلب على رسائل ست هي «مفاخرة الجواري والغلمان» و«تفضيل البطن على الظهر»، و«المعلمين»، و«طبقات المغنين»، و«الوكلاء»، و«مدح التجار وذم عمل السلطان» . في الرسالتين الاوليين يطرق الجاحظ موضوعا يمتزج فيه الاجتماع بالفقه والاخلاق. وهو ظاهرة اللواط التي استشرت في عصره نتيجة الانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي والانحراف الجنسي. وفي كل من الرسائل الاربع الباقية يتحدث عن طبقة من طبقات المجتمع في عصره أيضا: عن المعلمين واوضاعهم ونظرة الناس اليهم والدور الخطير الذي يضطلعون به في التربية ونقل الثقافة عبر الاجيال. وعلى المغنين واهمية فن الموسيقى ونشأته وممثليه الكبار. ثم الوكلاء ومدى الثقة التي ينبغي أن نمنحها اياهم. واخيرا التجار وشرف عملهم واشتهار قريش ومنها النبي في التجارة.
والموضوع الثالث الذي يحظى باهتمام الجاحظ هو الفقه. ويعتبر الجاحظ نفسه رجل علم وفقه. وقد طرق هذا الموضوع في ثلاث رسائل هي «الفتيا» و«مدح النبيذ وصفة اهله» و«الشارب والمشروب»، ويذكر الجاحظ في رسالة الفتيا انه الف كتابا يجمع أصول الفقه عند مختلف
1 / 6
المذاهب الفقهية ولكن هذا الكتاب ضاع مع الأسف ولم يصل الينا. ويعتبر علم الفقه مختلفا عن علم الكلام. وفي الرسالتين الاخريين يعالج موضوعا واحدا هو النبيذ، صفاته، وتحليله. وهو يذهب الى انه غير محرم في الشرع لأنه يختلف عن الخمر.
والموضوع الرابع يستقطب ثلاث رسائل هي «البلاغة والايجاز»، و«تفضيل النطق على الصمت»، و«صناعة القواد» وموضوعها الغالب هو فضل الأدب، واهميته في حياة المرء ومفهوم البلاغة وعلاقتها بالايجاز. وهو يرى في رسالة البلاغة والايجاز التي لم يصلنا منها سوى النزر اليسير (صفحتين) ان البلاغة لا تعني الايجاز كما يدعي البيانيون. وقد طرق هذا الموضوع بتوسع في البيان والتبيين والحيوان. ويرى في الرسالة الثانية ان النطق افضل من الصمت على الرغم من حسنات الصمت، وقد عاد الى بحث هذه المسألة في رسائل أخرى مثل التربيع والتدوير، وكتمان السر وحفظ اللسان، كما رجع اليها في صدر كتاب البيان والتبيين. اما «صناعة القواد» فتحث على تعلم جميع الآداب، واغناء الثروة اللغوية، والاطلاع على مختلف فنون الأدب والقول، ليتمكن المرء من التعبير عن جميع ما يجول بخاطره أو يعرض له من الموضوعات. وتتضمن الرسالة نماذج من شعر الجاحظ والفاظا تقنية تخصّ مختلف المهن.
اما الموضوع الخامس والاخير فهو الشؤون الشخصية التي تغلب على ست رسائل هي: «الجد والهزل» و«فصل ما بين العداوة والحسد»، و«رسالة الى ابي الفرج بن نجاح الكاتب»، و«المودة والخلطة»، و«استنجاز الموعد» و«التربيع والتدوير» . في الرسالة الاولى يميط الجاحظ اللثام عن سوء علاقته بالوزير محمد بن عبد الملك الزيات في المرحلة الاخيرة من حياته، ويتذمر من كره الوزير اياه لأنه لم يدفع الاتاوة، كما يشكو من عيب
1 / 7
ابن الزيات اياه بعدم تجليد كتبه وتنظيمها، وتمنيه موته ليرتاح من اعباء الحياة بعد ان طعن في السن. وفي الرسالة الثانية و«فصل ما بين العداوة والحسد» يشكو ابو عثمان من كثرة حساده الذين يطعنون على كتبه أو يسرقونها او ينتحلونها، او يتقاضونه جزءا من ريغها. ويتطرق الى الكلام على الحسد الذي عالجه في رسالة الحاسد والمحسود، ويهتم هنا بتفريقه عن العداوة.
وفي الرسائل الثلاث التالية التي يوجهها الى ابي الفرج بن نجاح الكاتب يسأل الجاحظ ابا الفرج أن يساعده على فاقته فيجري عليه ارزاقا قد انقطعت، ويبدو أنه وعده خيرا ثم لم ينجز وعده، فعاد الى تذكيره بالوعد. ونجد في احداها قصيدة نظمها الجاحظ ولم يعلن عن نسبتها اليه، يمدح فيها ابا الفرج ويستعطفه.
والرسالة الاخيرة التي نلفيها في هذه المجموعة هي «التربيع والتدوير» .
والباعث على كتابتها دافع شخصي هو اعتداد احد الكتاب المدعو احمد بن عبد الوهاب بنفسه وعلمه حتى طاول الجاحظ ذاته. ولما نفد صبره ولم يعد باستطاعته احتماله وضع هذه الرسالة يسخر من قبح جسده، ويصوره تصويرا كاريكاتوريا مضحكا، كما يمتحنه بمائة مسألة يطرحها عليه ويطلب منه الاجابة عليها. وهذه المسائل تحيط بجوانب الثقافة العامة التي عرفها مجتمع الجاحظ وانعكست بجلاء في كتبه العديدة. ولهذا نلقى الجاحظ ينصح ابن عبد الوهاب في آخر الرسالة ان يعمد الى قراءة كتب الجاحظ التي تنطوي على اجوبة على تلك المسائل الطبيعية والكيمياوية والحيوية والتاريخية والجغرافية، والدينية والفنية الخ ...
بقي ان نقول اننا لم نحقق هذه الرسائل لأنها حققت ونشرت مرات عدة (انظر كتابنا «كشاف آثار الجاحظ»، الذي يوضح الطبعات المختلفة.
واصولها، ويحصي كتب الجاحظ) . ولكنا انجزنا ثلاث مهام اساسية كانت
1 / 8
الرسائل بحاجة اليها: المهمة الأولى هي كتابة مقدمة تحليلية لها تبين محتوياتها وقيمتها، والثانية تبويت الرسائل وتصنيفها على اساس موضوعاتها، ووضع عناوين فرعية لفقرها تسهل تناولها وتوضح مطاليبها. والثالثة شرح الرسائل وايضاح الآراء والافكار المنطوية عليها.
وقد اعتمدنا على طبعة عبد السلام هارون الصادرة عن مكتبة الخانجي بمصر سنة ١٩٦٤ م وسنة ١٩٧٩ م، في اربعة اجزاء، بعنوان «رسائل الجاحظ» . واعتمدنا على طبعة حسن السندوبي، الصادرة بمصر عن المطبعة الرحمانية سنة ١٩٣٣ م، في رسالة واحدة هي: التربيع والتدوير، لأنها أكمل من طبعة هارون. وقد اوضح عبد السلام هارون انه رجع في طبعته الى ثلاث مخطوطات هي مخطوطة مكتبة داماد ابراهيم بتركيا رقم ٩٤٩. ومخطوطة المتحف البريطاني رقم ١١٢٩. ومخطوطة المكتبة التيمورية المودعة بدار الكتب المصرية، رقم ١٩.
1 / 9
١- مقدمة كتمان السر وحفظ اللسان
. يوجه الجاحظ كلامه الى شخص لم يسمه ينعته بطيب الاخلاق والاقتراب من الكمال والتمام والفضل، لولا عيبان يعتبرهما القطب الذي تدور عليهما الفضائل ويستحقان العذل والتأنيب وهما افشاء السر ووضع القول في غير موضعه. ويبدو أن هذا الشخص من اصحاب الشأن والمراتب العالية، ومن اصدقاء الجاحظ الذين يهمه أمرهم ويحرص على ارشادهم وتوجيههم، أمثال محمد بن احمد بن ابي دؤاد.
ويرى الجاحظ ان الانسان مطبوع على «اذاعة السر واطلاق اللسان بفضل القول» والذي يحمله على ذلك الهوى وضعف العقل. ولذلك كان من العسير عليه مغالبة هواه وحفظ لسانه وصيانة اسراره، ولن يستطيع ذلك الا بقوة العقل. فمتى قوى عقله لجم هواه وضبطه ومنعه من ارسال الكلام على عواهنه واذاعة ما ينطوي عليه صدره ومن ثم جاءت تسمية العقل بهذا الاسم، فهو بالنسبة للهوى بمثابة الحبل بالنسبة للبعير يقيده ويمنعه من الشرود والضلال.
اما اللسان فلا لوم عليه لانه ليس سوى «اداة مستعملة لا حمد له ولا ذم عليه» والحمد والذم للعقل والحلم.
1 / 11
ان اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة تحفظ الاسرار والخواطر والعلم. والقلب يضيق بما فيه ويستثقله ويستريح الى نبذه واذاعته بواسطة اللسان. وهذا هو السبب في طبع الناس على حب الاخبار والاستخبار، واهتمامهم بالتاريخ واحداثه وتدوينه. وقد سيطرت هذه الغريزة عليهم حتى عسر عليهم الكتمان وغدا من يكتم سره عرضة للسقم والكمد والكرب.
ويروي الجاحظ اخبارا مدهشة في ذلك. فان احد الفقهاء اطلع على اسرار لا يحتملها العامة ضاق صدره بها فذهب الى العراء وحفر حفرة اودعها دنا وراح يختلف على هذا الدن يحدثه بما سمع فيروح عن قلبه. وكان الاعمش، سليمان بن مهران (١٨٨ هـ-) عندما يضيق صدره بما فيه مما لا يريد ان يذيعه بين الناس، يقبل على شاته فيحدثها بالاخبار والفقه.
ويتحدث الجاحظ على مساوىء افشاء الاسرار، فيقول ان صاحب السر يبقى مالكا له حتى يذيعه أو يفلت منه الى اذن واحدة، فسرعان ما يشيع ويدفع الى اذن ثانية فثالثة. وعندئذ يصبح صاحب السر عبدا لمن ائتمنه على سره ورهينة بين يديه.
واذا اساء من اؤتمن على السر حفظ الامانة، ونشره او حرفه ارث الشحناء بين الاقرباء والاصدقاء، والصراع بين الاعداء، وقد يؤدي الى سفك الدماء وازالة النعم والتفرقة.
ويدعو الجاحظ الى سوء الظن بجميع الناس حتى الاهل والعبيد والحاشية والاولاد والعمال. فهؤلاء اكثر الناس اذاعة للاسرار. وعمال الخليفة خاصة يفشون اسراره المشينة. والنمامون مولعون باذاعة الاسرار التي تنتشر على السنتهم انتشار النور في الظلمة.
ومما يدفع الى افشاء السر التحذير من نشره. فاذا اودعنا احدهم سرا
1 / 12
واستعهدناه بعدم اظهاره اغريناه باذاعته لأن كل ممنوع مرغوب. ويفسر الجاحظ رغبة الناس فيما منعوا منه بالطبع الذي يفسر به كل شيء لأنه مبدأه الفلسفي الاساسي. انهم مطبوعون على شهوات عديدة ترغب في الارتواء والاشباع.
فاذا منعت من الحصول على ما يشبعها او يرويها تعلقت به وفتشت عنه ورغبت فيه. فاذا حصلت على مطلوبها واشبعت حاجتها قل قدره عندها وهان عليها وصدفت عنه. هذا هو حال الجائع والشبعان والمحروم من الجماع والمغموس فيه. ولا يشذ عن هذه القاعدة سوى المال والعلم، لأن المال يتخذه البعض لا لقضاء الحاجة بل لقمع الحرص والحرص لا حد له. ولأن العلم لا حد له ولا نهاية وكلما ازداد المرء طلبا ازداد فيه رغبة. ويرى الجاحظ في موقف الناس من المال والعلم خروجا على العقل لأن النهم هو تجاوز القدر.
ان اكثر الامور عرضة لافشاء السر الخبر الرائع والخطب الجليل مثل اسرار الاديان وعقائدها واخبار الملوك والعظماء.
وافشاء السر يمت بصلة الى الغيبة، والغيبة رذيلة خلقية كريهة لانها «خطة جور في الحكم، وسقوط في الهمة، وسخافة في الرأي، ودناءة في القيمة، وكلفة عريضة، وحسد وتعاسة قد استحوذت على هذا العالم وغلبت على طبائعه وتوكدت لسوء العادة عندهم ولعلو الشر على الخير وكثرة الدغل والنغل والحسد في القلوب ...» .
ويحض الجاحظ على العدل في الاحكام لانه لا شيء «احلى مذاقا من العدل، ولا اروح على القلوب من الانصاف، ولا امر من الظلم ولا ابشع من الجور» .
واسباب الظلم هي الشره والحرص المركب في اخلاق الناس ومن ثم
1 / 13
مست الحاجة الى الحكام الذين يردعون الظالم عن ظلمه ويأخذون للضعيف حقه.
كما ينهى الجاحظ عن الفضول، ويعني به ان «يسأل المرء عما لا يعنيه، ويكترث لما لا يكرثه، ويعنى بما لا ينفعه ولا يضره، واكثر المجيبين يجيب ولم يسأل، ويكلف ما لا يعلم» . فهو ينظر اليه من الوجهة الاخلاقية لا القانونية.
ويختم ابو عثمان الرسالة بالدعوة الى حفظ اللسان ويستشهد باقوال كثيرة تنصح بالصمت ينسبها الى النبي وعلي بن ابي طالب والحكماء.
1 / 14
٢- مقدمة الحاسد والمحسود
تبدو المقدمة متصنعة الاسلوب، يتقيد بها صاحبها بالسجع والطباق ويقصد اليها قصدا على غير عادة الجاحظ. وتحدد المقدمة موضوع الكتاب وهو الحسد: اصله، ومظاهره، وخفاياه، وتفشيه في العلماء اكثر من الجهلاء، وفي الاقارب والصالحين والجيران واسباب ذلك.
ويعتبر الجاحظ الحسد داء عضالا يصعب علاجه ينهك الجسد ويورث الضجر والعسرة ويدفع صاحبه الى مراقبة الغير حتى لا يغفل عن شيء من امورهم. والحاسد يحب ان ينزع النعمة التي اعطاها سواه الله لتصير اليه.
اما سبب الحسد فهو حصول الناس على النعم والمراتب دون الحاسد، فاذا وجد الحاسد ذلك تنغص وحزن وحقد على الذين انعم الله عليهم وتمنى ان يحرموا من تلك النعم. فاذا كانت النعمة مالا قال ان صاحبه جمعه حراما، وألّب اقاربه واصدقاءه عليه، وحرضه عليهم ليقطع عنهم معروفه، وذمه وخذله. واذا كان المحسود عالما اتهمه بالابتداع والاتباع والجهل والتزلف لنيل الهبات. واذا كان المحسود ورعا رماه بالتصنع والتظاهر بالنسك لتثق الناس به فيودعون لديه اموالهم ويقبلون شهادته ويثنون عليه.
1 / 15
وهذا الداء يصيب جميع الطبقات ويتفشى خاصة بين الجيران لانهم يطلعون على بعضهم البعض بسبب ملاصقة المنازل، كما يتفشى بين الاقارب للعلة ذاتها ولانهم يعرفون شؤونهم الخاصة. ويضرب في الاصدقاء نظرا للالفة والمداخلة بينهم، ولذا ينصح الجاحظ المرء بالاقلال من مخالطة صديقه الحسود، وعدم الافضاء اليه بسره، وعدم مشاورته في اموره.
ويؤكد الجاحظ على الفكرة القائلة انه لا خير يرتجى من الحسود فهو لا يصوب رأيا ولا يدل على خطأ، اذا ملك فتك، واذا «ملك عصى وبغى، حياتك موته وموتك عرسه وسروره. يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي، لا يحب من الناس الا من يبغضك، ولا ينغص الا من يحبك، عدوك بطانة وصديقك علانية» .
بهذا الوصف البليغ صور الجاحظ الحسود واماط اللثام عن نفسه المريضة الحاقدة التي تضمر الشر وتتظاهر بالخير، وتنطوي على الغل، ويرى الجاحظ ان الحياة الاجتماعية، اذا كثر فيها الحسد غدت جحيما لا يطاق، لذا نزع الله من اهل الجنة الغل والحسد ليوفر لهم الحياة الهانئة السعيدة.
ومن صفات الحسود نزوعه الى اظهار حسده او عدم القدرة على كتمانه. ويضرب مثل ابن الزبير الذي لم يستطع اضمار حقده وحسده على اهل البيت في حضرة ابن عباس. ومثل اخوة يوسف الذين حسدوه على جماله وفطنته ومحبة والده اياه فالحوا عليه بالسماح له بمرافقتهم واعطوه المواثيق المؤكدة بالمحافظة عليه.
اما عواقب الحسد فهي العداوة والقطيعة والتفرقة بين الاصدقاء والاقرباء والجيران، وادخال الغم على نفس الحاسد وتنغيص حياته، واستحكام الوساوس على ضميره.
1 / 16
٣- مقدمة النبل والتنبل وذم الكبر
موضوعان يدور عليهما الكلام في هذا الكتاب هما النبل والتنبل، والكبر.
ويزعم الجاحظ انه تلقى كتابا من شخص لم يذكر إسمه يشكو فيه من تكبر بعض الناس عليه. واعتقد انه محمد بن احمد بن ابي دؤاد. والدليل هو قوله: «وقد اصبح شيخك، وليس يملك من عقابهم الا التوقيف، ولا من تأديبهم الا التعريف، ولو ملكناهم ملك السلطان، وقهرناهم قهر الولاة، «لنهكناهم عقوبة بالضرب، ولقمعناهم بالحصر» . فهذا الشخص من العلية وذوي السلطان، وشيخه أو أبوه مثله في المرتبة والسؤدد ولا ينطبق ذلك الا على محمد بن أحمد بن أبي دؤاد ووالده اللذين توليا على التوالي منصب القضاء في عصر الجاحظ وكان الجاحظ مقربا منهما وتجمعه بهما نحلة الاعتزال. وقد وجه اليه اكثر من رسالة واستعمل العبارة ذاتها: شيخك. الخ..
وحاول ان يرشده الى بعض الامور السياسيه والمذهبيه ويحرضه على أعدائه المتهاونين به (انظر رسالة المعاش والمعباد، ورسالة في نفي التشبيه) ضمن رسائل الجاحظ الكلاميه، ورسائل الجاحظ السياسيه)
1 / 17
ان النبل هو الفضل وكرم النفس (وهو خصلة يفطر عليها بعض الناس ولا يمكن اكتسابها او تكلفها: «ومتى كنت من اهل النبل لم يضرك التبذل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التنبل» . ان النبل لا يكون بالتنبل ولا العظم بالتعظم، هذا ما يقرره الجاحظ عملا بمبدئه الفلسفي القائل إن الاخلاق طباع وليست نتيجة الاكتساب والتربية.
وصفات النبل هي المروءة، وبعد الهمة، وبهاء المنظر، وجزالة اللفظ، والمقامات الكريمة. ولا يكون المرء نبيلا «حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخلق، نبيل المنظر، بعيد المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش، ان وافق ذلك عرقا صالحا ومجدا تالدا» .
أضف الى ذلك التواضع والانصاف والصبر والحلم. وهكذا غدا النبيل مجمعا لجميع الفضائل الخلقية والجسمية والاجتماعية.
اما التكبر فقد عالجه الجاحظ في القسم الثاني من الكتاب، واعتبره صفة قبيحة في الانسان ولا يستحسن الا في ثلاثة مواضع: اذا كان المتكبر بدويا غير متحضر، فيكون كبره من بقايا الجاهلية والعنجهية الاعرابية. واذا كان انتقاما من عدو متجبر. واذا كان معارضة للملوك الجبابرة.
ومن صفات المتكبر التعظم على الصديق، والتغافل عن الضيف والمن على الضعيف، واحتقار من هو دونه والخضوع لمن فوقه. انه لئيم يظلم الضعيف ويطلب الهارب، ويهرب من الطالب ويستخف بالأديب، ويكذب وينم ويخون، ويبذخ، وينفج، ويصلف.
اما عواقبه فوخيمة: انه يسبب لصاحبه مقت الناس وسخط الله، ويبعده عن العلم والفلاح والحقيقة، ويزين له الشر والمعصية وقد عبر الجاحظ عن ذلك بقوله الجامع المانع البليغ «ما رأيت أوبأ مغبة وانكر عاقبة واوخم مرعى
1 / 18
وأبعد هوى واضر على دين، وافسد لعرض واوجب لسخط الله، وادعى الى مقت الناس، وابعد عن الفلاح واظهر نفورا من التوبة، واقل دركا عند الحقيقة، وانقص للطبيعة واضيع من العلم، واشد خلافا على الحلم، من التكبر في غير موضعه، والتنبل في غير كنهه» .
والكبر يعتري مختلف طبقات الناس من سفلة وعلية واجواد ونجلاء، وشجعان وجبناء، وكذابين وصدوقين واحرار وعبيد وجاهلين ومسلمين، وعرب وفرس وسند.
والكبر من اعظم مساوىء السلطان ولم يعرف به سوى الملوك الجبابرة امثال فرعون وآل ساسان، والولاة القساة امثال يوسف بن عمر ووكيع بن ابي سود.
1 / 19
٤- مقدمة مفاخرة الجواري والغلمان
الموضوع إجتماعي ونفسي وخلقي وشخصي. فهو يعالج ظاهرة شاذة من الوجهتين الخلقية والنفسية هي اللواط، ولكنها اصبحت في عصر الجاحظ مسألة إجتماعية انتشرت بين طبقات المجتمع انتشارا واسعا حتى غدت شأنا عاديا لا يثير الاستنكار والشجب، يتحدث عليه الناس ويدور على السنة الشعراء والكتاب. وهذا ما اراد الجاحظ الاشارة اليه في صدر الرسالة بقوله:
«وبعض من يظهر النسك والتقشف اذا ذكر الحر والأير والنيك تقزز وانقبض. واكثر من تجده كذلك فانما هو رجل ليس معه من المعرفة والكرم، والنبل والوقار، إلا بقدر هذا التصنع» .
ويورد امثلة عديدة تبين أن استعمال الكلمات الجنسية كان شائعا منذ عصر النبي على السنة الصحابة والتابعين والفقهاء امثال علي بن أبي طالب وابي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس وحمزة بن عبد المطلب. وقد رويت احاديث شريفة وردت فيها بعض المفردات الجنسية.
ويبرر الجاحظ جواز استعمال هذه الالفاظ بمبررات لغوية وفنية وطبيعية.
والتبرير اللغوي يقوم على القول ان هذه الالفاظ انما وضعت ليستعملها اهل
1 / 21
اللغة، ولو لم يكن للناس بها حاجة لما وضعت. «ولو كان الرأي الا يلفظ بها ما كان لاول كونها معنى، ولكان في التحريم والصون للغة العرب ان ترفع هذه الاسماء والالفاظ منها» .
والتبرير الفني غبر عنه الجاحظ بقوله: «لكل مقام مقال» . وشرحه بان اصناف العلم عديدة ولكل نوع اهل يقصدونه. من هذه الانواع الجزل والسخيف. وينبغي ان يعبر عن كل علم باللغة التي تلائمه، فالجزل للجزل والسخيف للسخيف. وحتى اذا كان الموضوع رصينا وجادا لم يضره ان يمزح بشيء من الهزل لطرد الملل عن النفس ولتنشيط الذهن. وقد التزم الجاحظ هذه القاعدة الفنية في معظم كتبه فمزج الجد بالهزل في الحيوان والبخلاء والتدوير والتربيع الخ..
والتبرير الطبيعي يستخرج من مذهبه الفلسفي العام القائل ان الجنس أمر طبيعي موجود في جميع اصناف الحيوانات بما فيها البشر، وهو تعبير عن غريزة فطرية لا يمكن إنكارها او الاشمئزاز منها او كتبها او الغاؤها وينبغي ان تمارس دون عقد نفسية او حرج خلقي.
ولكننا نستطيع ان نضيف الى تبريرات الجاحظ الثلاثة تبريرا رابعا يتعلق بشخصية الجاحظ ذاتها. وهو الافتراض بانه كان يعاني عقدة جنسية تتمثل بالنقص او الضعف الجنسي. هذا الضعف هو الذي جعله يحجم عن الزواج وبناء العائلة وانجاب البنين، وقد المح الى الحسرة التي يشعر بها في كتاب الجد والهزل عندما عابه ابن الزيات على عدم انجاب الاولاد. وهذا النقص هو الذي دفعه الى الاكثار من حديث الجنس للتعويض عملا بمبدأ يونغ.
اما مسألة اللواط فقد بحثها في رسالة تفضيل البطن على الظهر واعتبرها امرا غير طبيعي ومحرما في الشرع. وفي رسالة الجواري والغلمان التي نحن
1 / 22
بصددها يذكر من جديد بتحريم الزنى واللواط: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا»
(الاسراء ٣٢) . كما يذكر بالعقاب الصارم عليهما عملا بالآية الكريمة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ
(النور، ٢) . وحد اللواط كحد الزنى، وربما كان أشد من الرجم ليصل الى الاحراق والقتل.
ويورد الجاحظ احاديث عديدة تحث على الزواج مثل الحديث «تزوجوا فاني مكاثر بكم الامم» . والحديث «تزوجوا والتمسوا الولد، فانهم ثمرات القلوب، واياكم والعجز العقر» .
ويعقد الجاحظ مقارنة مسهبة بين الجواري والغلمان واحتجاجات اصحابهما لينتهي الى تفضيل الجارية على الغلام. بقوله: «نحن نترك ما انكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يحصله المعقول ويدركه الحس والوجدان دالا على ان الاستمتاع بالجارية أكثر واطول مدة، لأنه اقل ما يكون التمتع بها اربعون عاما، وليس تجد في الغلام معنى الا وجدته في الجارية واضعافه..» .
ويأتي ابو عثمان على اوصاف الجارية الجميلة فيكرر ما قاله في رسالة القيان ورسالة النساء من ان المجدولة هي مثال الجمال.
ويتطرق الى موضوع جانبي هو الخصاء. وقد طرقه باسهاب في كتاب الحيوان. واستنكره استنكارا شديدا ونهى عنه لأنه يمثل بالانسان ويفقده انسانيته ويغير نفسيته. «فالخصي ليس برجل ولا امرأة، واخلاقه مقسمة بين اخلاق النساء واخلاق الصبيان» «والخصي اذا قطع منه ذلك العضو قويت شهوته، وقويت معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرت دمعته، واتسعت فقحته ...» .
1 / 23
ويسرد الجاحظ اشعارا كثيرة في وصف الجواري والغلمان والتغزل بهم اختارها من ابي نواس وابي هشام الخراز ويوسف لقوة وامرىء القيس وعلقمة الفحل.
وينهي الرسالة بمقطّعات من احاديث البطالين والظرفاء، تتضمن نوادر من أخبار اللاطة والزناة والشبقين وينسبها الى شخص لا يذكر اسمه لأن كلا منها يبدأه بكلمة قال، ويسرد الخبر. وهي نكات تبعث على الشهوة وتسيء الى العفة ما كان اغنى ابا عثمان عن الاشتغال بها. ولكن المبررات التي سارع اليها في صدر الرسالة، ربما اقنعته بجواز ما تضمنته وينبغي أن يكون قد قصد الى اقناعنا ايضا بجواز صنيعه.
1 / 24