وتوجهت إلى إربل وهو بالموصل على طريقته المرضيّة وحالته السنية، وكنا نتراسل بالأشعار والمعاني، ونجني ثمار الآداب على البعد دانية المجاني، إلى أن صاح بشمله غراب البين، وأصابته في سدادة العين، والله يحكم ولا معقب لحكمه، وإذا أراد أمرًا هيأ أسبابه، فتنكر له الزمان، ودهمته طوارق الحدثان، وأقدمه سوء الحظ على ارتكاب الخطر، وكان له أجل منتظر، ولا بد من قدوم المنتظر، فسلم الموصل إلى العلم سنجر، وجاءت عساكر المغل وحاصرت الموصل، وأُخذ هو وأولاده في شعبان سنة ستين وستمائة فقتلوا أجمع، فعاد عزّه ذلًا، وأصبح شمله مضمحلًا، وبكاه الأدب بدمعه الماطر، وخلت من أنسه دموع البيان فليس بها صافر، فإنا لله وإنا إليه راجعون وتبًا لدنيا تغدر أبدًا بالكرام، وتسقي بنيها كاسات الحِمام، غدرت بآل ساسان فبادوا، وأردتْ الأكاسرة فما أبدوا ولا أعادوا، وأفنت الأوائل والأواخر، واستولت على القرون فلن تغادر، خرّبت ارمَ ذات العماد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد:
وأجزرتْ سيف أشقاها أبا حسنٍ ... ومكَّنت من حسينٍ راحتي شمرِ
فليتها إذ فدتْ عمرًا بخارجةٍ ... فدتْ عليًّا بمن شاءتْ من البشرِ
وقد أحسن المعري في قوله:
على أمِّ دفرٍ غضبةُ الله إنَّها ... لأجدرُ أنثى أنْ تخونَ وأنْ تُخني
كأنَّ بنيها يولدون وما لها ... حليلٌ فتخشى العارَ إنْ سمحت بابنِ
فمن شعره، رحمه الله تعالى:
بدا لنا من جبيته قمرُ ... تضل في ليل شعره الفكرُ
أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمرُ
ظبيٌ غريرٌ في طرفه سنَة ... يلذ فيها للعاشق السهرُ
تثني الحميّا من لين قامته ... غصنًا رطيبًا فروعه الشعرُ
حديث عهد الشباب ما حف بال ... ريحان وردٌ في خده نضرُ
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فتحتاجُ عنه تعتذرُ
جوامع الحسن فيه ظاهرة ... فالقلب وقف عليه والبصرُ
خصر كما أثَّرَ التفرق في ... جسمي وريقٌ رضابهُ خصرُ
وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علينا في حبها الخطرُ
وقال أيضًا، وهي غاية في معناها:
جديدُ بُرد الجمال طلعته ... محمية من طلائع الشعرِ
حياة وجدي ماء بوجنته ... ما كدرت صفوه يد الخضرِ
إن تطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر
وقال أيضًا:
ثنى قده واختال كالأسمر اللدن ... فأيقظ سيف اللحظ من ناعس الجفن
هو الظبي إلاّ أنَّ في الظبي لفتة ... وغصن النقا لولا التعطف في الغصن
حبيب إذا ما قلت ما أحسن الورى ... فلست أرى فيه خلافًا فأستثني
أيا مالكي هل فرط وجدي شافعي ... إليك أم الإعراض من مذهب الحسنِ
فإني وإن أسكنت قلبي في لظًى ... لأرتع من خديك في جنتي عدنِ
وإن كنت قد أطلقت بالدمع عبرتي ... فإن فؤادي من جفائك في سجن
أيا صاحبيْ نجواي ما أنا منكما ... إذا لم تعيناني ولا أنتما مني
أخليتماني للأسى وادعيتما ... وفاءً فما أغنى وفاؤكما عني
ومن شعره، ﵀:
دعاه يشمْ برقًا على الغور لائحا ... يضيء كما هزّ الكماة الصفائحا
ولا تمنعاه أنْ يمرّ مسلمًا ... على معهد قضّى به العيش صالحا
فماذا عليه لو يطارح شجوه ... حمائم فوق الأثلتين صوادحا
بعيشكما هل في النسيم سلافةٌ ... فقد راح منها القلب سكران طافحا
وهل شافهت في مرة روضة الحمى ... فإنا نرى من طيّها النشر فائحا
وقوفًا فهذا السفح نسق ربوعه ... دموعًا كما شاء الغرام سوافحا
منازل كانت للشموس مطالعًا ... وللغيد من أدم الظباء مسارحا
وقال أيضًا:
هذا فؤادي في يديك تذيبه ... غادرته غرضَ السهامِ تصيبه
زادتْ صبابتهُ فهل تُجدي له ... نفعًا إذا ما قلَّ منك نصيبهُ
ما كان يبلغ من أذاه عدوّه ... ما قد بلغتَ به وأنتَ حبيبهُ
تُهدي الشقاءَ له وأنتَ نعيمهُ ... وتزيدهُ مرضًا وأنت طبيبهُ
يا حبذا البرقُ المضيء وإنْ بدا ... بينَ الضلوع خفوقه ولهيبهُ
وسرى النسيمُ فهزَّ عطفَ صبابتي ... إذْ كانَ من جهةِ الحبيب هبوبهُ
1 / 20