وأما التمثيل فقد أصلح فيه جوتشيد ولسنغ وونكلمان ما تيسر لهم أن يصلحوا، ولكنه بقي مع هذا فنين يكاد يستقل أحدهما عن الآخر، لا فنا واحدا في تطور واحد كما كان عند الفرنسيين والإنجليز. فالعالي منه كان مقصورا على مسارح الأمراء في قصورهم التي لا يدخلها غيرهم ومن يصطفونه لمجالسهم، أو مقصورا على الطلاب في الجامعات يلهون به فترة بعد فترة على غير انتظام، والوضيع منه موكول إلى الفرق الطوافة التي لا كرامة لها ولا متسع للنبوغ فيها.
ثم تولته عناية الأمراء والأدباء رويدا رويدا حتى ارتقى بعض الارتقاء، ولكنك خليق أن تعلم مدى ارتقائه هذا متى علمت أن النظارة كانوا يعاقرون الخمر في ردهة دار التمثيل ويدخلونها بأطفالهم وكلابهم في أيام «فيمار» الزاهرة، وهي الأيام التي أشرف فيها جيتي على إدارة التمثيل. •••
وإلى هنا يستريح ضمير الكاتب الأوروبي إلى السكوت وهو يصف العناصر التي اشتركت في تكوين جيتي فلا يزيد على ما تقدم.
إلا أن الكاتب العربي مطالب فيما نعتقد بكلمة أخرى قلما تعثر بها في تراجم الأوروبيين لذلك الشاعر، فليس يسعه إلا أن يضيف إلى ما تقدم كلمة واجبة عن العناصر الشرقية التي اتصلت بجيتي وأثرت فيه بعض التأثير، فمما لا ريب فيه أن للعربية فضلا لا ينكر في تثقيف جيتي وتغذية خياله؛ لأن آداب العرب وصلت إلى الألمان في العصر السابق لعصر جيتي من طريقين لا من طريق واحد: أحدهما مباشر وهو طريق الترجمة من العربية إلى الألمانية، والآخر غير مباشر وهو طريق الآثار التي ترجمت عن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وكانت فيها مسحة واضحة من الآداب العربية.
فقصة «روبنسون كروزو» - وهي من أهم ما أثر في القصص الألماني - مدينة لرحلات السندباد وأسطورة حي بن يقظان الفلسفية اللتين ظهرتا في الإنجليزية قبل «روبنسون كروزو» بزمن وجيز. و«دون كيشوت» الإسبانية - وهي كذلك من أهم ما أثر في القصص الألمانية - عربية في الفكاهة والتقسيم، وتكاد تكون بعض أمثالها ترجمة حرفية للأمثال المعروفة عند الأندلسيين. وشعراء بروفنس - وهم أصحاب أثر واضح في القصص الألماني - قد أخذوا كثيرا من شعر الأندلس حتى أوزانهم التي تشبه أوزان أزجال ابن قزمان.
فاسم الأدب العربي لن ينسى إذا ذكرت اليوم أسماء الآداب التي مازجت عبقرية «جيتي» أو مازجتها تلك العبقرية العظيمة، وهو نفسه قد أدى شهادته لذلك الأدب بديوان طريف ظريف سماه «الديوان الشرقي» نسج فيه على منوال العرب والشرقيين في الغزل والوصف والحنين، وسنتكلم عنه بعد، ونترجم منه طرفا في باب المختارات.
حياة جيتي
1749-1832
كان جيتي يغبط صاحبه شيلر لموته في العقد الخامس من عمره، فذكراه أبدا مقرونة بذكرى الشباب المحبوب والنضارة الموموقة.
وقلما يصيب المرء في تمنيه ولو كان من الحكماء، فلو مات جيتي في سن صاحبه لضاع أكبر نصيبه من الشهرة وهبطت مكانته في عيون قومه وعيون سائر الأقوام؛ لأن طول عمره أقامه في الأدب الألماني الحديث مقام الأبوة والرجحان، وأتاح له أن يتم ما بدأه من الكتب في أوائل الحياة.
Page inconnue