وقال سانت هلير: «لعله لم يصدر من عشر سنوات كتاب واحد في علم وصف الأعضاء أو علم النبات خلو من وسم هذا الكاتب المشهور.»
جيتي في الحديقة.
وقال هلمهولتز: «إن جهود علماء النبات وعلماء الحيوان لم تزد على أن تجمع المواد والمشاهدات حتى تعلموا كيف يرتبونها على أنماط يتبين منها التسلسل ووحدة النسق. وهنا وجد عقل شاعرنا الكبير مجالا يوائمه وكان الوقت مؤاتيا له والمواد المجتمعة في علم النبات وعلم التحليل المقارن كافية للاستعراض الواضح، فأدخل في العلم فكرتين هاديتين تحفلان بالثمار، حيث كان معاصروه يهيمون على غير هدى أو يقنعون بتسجيل الوقائع اليابسة.» •••
ونحن لو قصرنا النظر على كتبه في الأدب لاتسع أمام أعيننا أفق يترامى في كل جانب، فما من خاطرة جالت في عقل إنسان إلا كان لها مجال في عقله، وكان له فيها رأي العارف المختبر إن لم يكن له فيها رأي المصيب المعصوم.
ومعظم أخطائه هي أخطاء النظر المستريح إلى جزء واحد لا أخطاء النظر العاجز عن التأمل والاستبانة، أو هي أخطاء السائر الذي لم يبلغ أمده ولا يزال في طريقه لا أخطاء المحجوب عن الحقيقة بعيدها وقريبها، وما شئت بعد هذا من رأي نافذ في الأخلاق والعقائد والاجتماع وسرائر النفس والتاريخ والفن والأمم والرجال، يفهم ما حوله ويشعر به ويستمرئه كأنه لا محيد له عن الفهم والشعور والاستمراء، لا كأنه يتحفز لعمل له أوقاته ومحاولاته، ثم يلقي بالرأي كأنه يتنفس أو يؤدي وظيفة من وظائف حياته له بأدائها غبطة وارتياح، لا كأنه ينهض بعبء أو يعالج مشقة مفروضة عليه، وهذه هي الآراء التي تفيض بها كتبه وأحاديثه ويحتويها هو كلها ولا يتأتى لرأي منها أن يحتويه كل الاحتواء. •••
على أننا نقف هنا لنقر جوانبه المتعددة في نصابها ولا نرسل القول فيه على إطلاقه؛ فهنالك أشياء لا بد من العلم بها مع العلم بهذه الصفة في الشاعر، لكي نعرف نصيبه هو منها ونصيب أمته وزمانه ومعيشته، ثم نعرف التفاوت بين عبقريته وبين العبقريات التي اتصفت بتعدد الجوانب وسعة النطاق.
فلا بد أن نذكر أن الاستبحار في العلوم خصلة عرف بها الألمان بين الأمم الأوروبية ولاحظوها في تعليم الأطفال الصغار، فكثر فيهم من يجمعون بين مختلف الدراسات والفنون.
ولا بد أن نذكر أن القرن الثامن عشر الذي نشأ فيه جيتي لم يكن عصر إخصاء وتشعب بل كان عصر إحاطة وإجمال وتمهيد من الإجمال إلى التفصيل، فالاشتغال فيه بالفنون الكثيرة أمر غير غريب ولا سيما الفنون في طور الابتداء، ولنلاحظ أن جيتي لم يخلق «فوست» خلقا من الخيال وإنما كان فوست مثالا للعالم الألماني المتبحر في القرون الوسطى، أي قبل جيتي بأجيال، وقد كان فوست محيطا بكل ما في عصره من علوم.
أحد تماثيل جيتي في شبابه.
ولا بد أن نذكر أن أكثر الفنون التي عالجها جيتي كانت مفروضة في عمله الوزاري ولم يكن يشغله عنها شاغل من مطالب المعيشة، فوسائل البحث عنده ميسورة والوقت كذلك ميسور، بل ربما كان البحث سلواه في إزجاء الفراغ.
Page inconnue