وقد كان جيتي ألمانيا صميما في حب التوسع والاطلاع، فنهل من الآداب الشرقية مع الناهلين، وقرأ السيرة النبوية وهو في نحو الرابعة والعشرين، واطلع على القرآن وأمعن فيه إمعان الأديب وإمعان الباحث في الأديان، فاصطبغت كتاباته الدينية بصبغة قرآنية كما يرى القارئ في كلامه عن الله ودلائل وجوده، وخرج من هذه الدراسة ينوي أن يكتب رواية شعرية تمثيلية في سيرة النبي العربي، فنظم بعض قصائدها وقسمها إلى فصول: الفصل الأول يبدأ بالمناجاة والاعتكاف واستعراض العبادات الجاهلية وينتهي بالهداية إلى الوحدانية، والفصل الثاني يبدأ بالدعوة وينتهي بالهجرة، والفصل الثالث يبدأ بالنصر وينتهي بتطهير الكعبة من الأصنام، والفصل الرابع يبدأ بالفتوحات وينتهي بالسم! والفصل الأخير تتجلى فيه نفس محمد الربانية بعد أن عرك الدنيا وأخذ منها وأخذت منه، فاستوى على مثاله وارتفع إلى أوج كماله، وتم له حظ الأدبين أدب الأرض وأدب السماء.
ووقف جيتي عند التقسيم والشروع فلم يكتب في روايته هذه إلا شذرات، وظل على حنين إلى موضوعها يعاوده من حين إلى حين، فلما عز عليه إنجازها قنع بترجمة رواية «محمد» لفولتير مع التصرف فيها، وأبرزها سنة 1800 للتمثيل.
ولكن رواية فولتير والرواية التي أرادها جيتي جد مختلفتين؛ إذ كان فولتير يسيء الظن بالنبي وجيتي يأخذ عليه ما يأخذ ولكنه يسلكه في أكابر العظماء المصلحين، وقد سمع ملام نابليون لفولتير على تأليف هذه الرواية وتصويره النبي في تلك الصورة، فسكت على ذلك الملام.
تلك كانت عناية جيتي بالمشرقيات منذ صباه، وقد تقدمت به السن وهو لا يفتأ يعود إليها كلما سنحت له فرصة من كتاب جديد أو بحث طريف؛ فقرأ ألف ليلة وليلة، ووعى دواوين السعدي وحافظ الشيرازي والفردوسي التي ترجمت إلى الألمانية، وامتلأ بهذه وتلك فبدأ في نظم القصائد على الطريقة الشرقية في معاني الفرس والعرب كما يتخيلها الغربيون، وعلق في سنتي 1814 و1815 بحب الفتاة ماريان دي فيلمر فجاشت نفسه بالغزل واجتمع له ديوان كامل من هذه المنظومات، فذاك هو الديوان الشرقي الذي أضاف إليه وطبعه بعد ذلك بأربع سنوات.
اشتمل هذا الديوان على اثني عشر بابا على هذا الترتيب، وهي: الشادي، وحافظ، والحب، والتأمل، والحزن، والحكم، وتيمور، وزليخة، والحانة، والأمثال، والفرس، والفردوس. وحاول في جميع هذه الأبواب أن يقتدي بالشرقيين في مذهب الغزل ومذهب التصوف؛ فاتخذ رائده في المذهبين شعر حافظ الشيرازي الذي يراوح فيه بين غزل الحس وغزل الروح، وقال في هذا المعنى: «هلم نسم الدنيا العروس ونسم الروح العريس، من عرف حافظا فقد شهد هذا الزفاف.»
وعلى هذا ربما لقي حبيبته بعد طول الغيبة فنظم في «اللقاء» وأودعه معنى لقاء الروح لعالم النور كما يتغنى به المتصوفون، وربما قرأ أبياتا للسعدي عن احتراق الفراش بنار المصباح فنظم في احتراق النفس بالحب، والتماسها الحياة من طريق الفناء!
على أن جيتي أنصف فلم يزعم أنه وفق في محاكاة الشرقيين ولا في محاكاة حافظ صديقه المحبوب، وإنما وصف كتابه بأنه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» فأحسن الوصف كل الإحسان.
الغلاف العربي للديوان الشرقي.
فالديوان يمثل الشرق كما يراه خيال شاعر الغرب من بعيد، ولا يمثل الشرقيين كما يراهم الشرقيون إلا على سبيل الاتفاق.
وقد راق جيتي أن يسم الديوان بالسمة الشرقية في شكله ومعناه، فجعل له غلافا عربيا مزخرفا بالنقوش العربية، وكتب في أوله تحية شعرية ترجمها له الأستاذ سلسفتر دي ساسي المستشرق المعروف في الكلمات الآتية: «يا أيها الكتاب سر إلى سيدنا الأعز فسلم عليه بهذه الورقة التي هي أول الكتاب وآخره. يعني أوله في المشرق وآخره في المغرب.» ويشير جيتي بذلك إلى كتابة الشرقيين من اليمين إلى الشمال وكتابة الغربيين من الشمال إلى اليمين، فتحيته هي الأول والآخر؛ لأنها تأتي في أول الكتاب عند الشرقيين وفي ختامه عند الغربيين.
Page inconnue