ولم تكن شارلوت تؤثر الزواج بالشاعر على الزواج بكستنر؛ لأنها كانت فتاة البيت التي توحي إليها الغريزة اختيار الزوج الصالح والمحبة المستقرة، فلم يبق لجيتي إلا أن يتراجع ويتوارى في غير جلبة ولا غضب، وقد فعل.
وراح جيتي يتلدد ويتوجع لهذا الفراق وهذه الخيبة، ولكنه شعر ببعض الراحة بعد أن ألف روايته عن «آلام الفتى فرتر» وأودعها ما أودع من خواطره وأشجانه، ولعل من عبر العاطفة الإنسانية أن نعرف كيف التقى جيتي وشارلوت بعد نيف وأربعين سنة من هذا الفراق، فقد زارته في فيمار تسأله الرعاية لولديها أوغست وثيودور، فلقيت الشيخ جيتي مؤدبا مفرطا في الأدب، وبحثت من وراء هذا النقاب عن ملامح الفتى جيتي في غير طائل.
شارلوت بف.
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
وتعسر الحديث بينهما ومل كل منهما صاحبه في فترة قصيرة، وخرجت تقول: «لو رأيته في الطريق ولم أعرف اسمه لما ترك في نفسي أقل أثر!»
وهكذا تتغير الآمال وتتقلب القلوب! •••
أما «أنا إليصابات شونمان» فهي التي أوحت إلى جيتي بعض مناظر الجزء الأول من رواية «فوست» وأهمها شخص «مرجريت» بطلة تلك الرواية، وقد خلد جيتي هذه الفتاة باسم «ليلي» في أغانيه الشجية وقال لصديقه «إكرمان» الذي نقل إلينا أحاديثه أنها كانت الأولى والأخيرة التي انطوى لها على أصدق الحب.
ليلي.
عرفها في فرنكفورت بعد فراقه لشارلوت بثلاث سنوات، وكانت تقاربها في سنها ولكنهما على تفاوت في البيئة والخليقة؛ فقد كانت «ليلي» بنت صاحب مصرف سري يعيش في قصره عيشة الترف والظهور، وكانت لعوبا عابثة تلهو بالحب والمحبين، ووصفها جيتي في قصيدته «حديقة ليلي» فإذا هي أسبه بالساحرة اليونانية التي ذكرتها لنا الأساطير وقالت لنا: إنها كانت تمسخ من تحب حيوانا سلس المقادة يهبط في حبها حيث تشاء، «فلا معرض للسباع أحفل بأصنافها وأجناسها من معرض ليلي! فهي تقنو فيه أعجب الحيوان وتقنصها ولا تدري كيف وقعت لها» كذلك قال جيتي في مطلع تلك القصيدة. ثم قال: «وما اسم الحورية الحسناء؟ اسمها ليلي! وإياك والمزيد في العرفان بها! بل إن كنت لا تعرفها فاحمد الله على ذلك، وما أكثر الصخب والتغريد إذا هي طلعت على سباعها وفي يدها سلة الحبوب ... كل هذا من أجل فتات من الخبز اليبيس! ولكنه في كفيها لهو الشهد الحلو المذاق.» ثم قال: «ويا لنظرتها من نظرة ويا لهتافها باسم بيبي بيبي من هتاف! إنهما لتستهويان النسر من أريكة جوبيتر! ويمينا لتقبلن حمائم فينوس الوديعات إليها ويقبلن الطاووس الفاخر معها لو أتيح لها سماع تلك النبرة. وقد أعرف دبا ساء تعليمه وتنظيفه جذبته من ظلمة الغاب لتقوده تحت مقرعتها وتروضه كما تروض غيره ... تقولون: أنا؟ من؟ ماذا؟ نعم يا رفاق، أنا ذلكم الدب الذي وقع في الحبالة مشدودا بحبل من حرير.» ثم قال بلسان ليلي تذكره: «وحش! أجل، ولكنه مؤنس لا بأس به، هو أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا.» ثم ختم القصيدة صائحا: «أيتها الآلهة! أليس في قدرتك أن تمسحي عني هذا الطلسم، يا لشكري ورضواني لو رددت علي الحرية المسلوبة! ولكن رويدك أيتها الآلهة لا تسعفيني بعونك. كلا! فليس عبثا أن تضطرب أوصالي كما تضطرب الساعة، أقسم أن في بقية من القوة أحسها تجول في أوصالي.»
Page inconnue