مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
[وبه نستعين] وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. يقول العبد الفقير إلى المولى الغني محمد بن أبي بكر بن عمر المخزومي الدماميني ﴿المالكي﴾ - عامله الله بلطفه الخفي وبره الخفي -: اللهم وإياك نحمد على نعم توجهت الآمال إلى نحوها فأسعفتها بتسهيل الفوائد، وشكت ما تلقاه من نقص الحظ فأسعدتها بتكميل المقاصد، ونشكرك على تصريفك لنا في خدمة كلمة الإسلام، وتوفيقك وإيانا إلى توحيدك الذي تكل عن وصف فضله المفرد جملة الكلام، ونسألك أن تشرح صدورنا بأنوار هدايتك فهي أعظم مطلوب، وتبعدنا عن مساوئ الأفعال الناقصة، وتسعدنا بمحاسن أفعال القلوب. ونشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، تعاليت أن تكون لك صفة مشبهة، ولم يحظ بذاتك ظرف الزمان ولا ظرف المكان، وأنى وهي عن سمات الحدوث منزهة؟، أنت الفاعل لما تختار، وكل شيء مفعول بقدرتك وإرادتك، ولا كائنة عند ذوي التمييز إلا وجمع أحوالها متعلقة بمشيئتك. ونشهد
1 / 17
أن محمدًا عبدك ورسولك العلم الذي هديت بمعارفه إلى الحق اليقين، وأنزلت عليه القرآن بلسان عربي مبين، ذو النسب الشريف الذي لشأنه التكبير ولشانئه التصغير، والدين الحنيف الذي نجا محالفوه وهلك مخالفوه، فانقسموا إلى جمع السلامة وجمع التكسير. ونصلي عليه وعلى آله وصحبه الذين جروا بميدان العربية فحولا لا يلحق لهم غبار، ورووا جمل أخبار الدين المفيدة فكان الرفع ثابتا لمحل تلك الأخبار، صلاة لا تزال الألسنة تجزم بفضلها وتعترف، ويدوم لقائها أحسن العيش ولا ينصرف، اللهم فأدم صلاتك عليه وعليهم، ووال تحياتك الطيبات واصلة إليه وإليهم.
وبعد فلا يخفى أن الكتاب المسمى: بـ "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد" تأليف الإمام العالم مالك/ أزمة الفضائل وابن مالكها، السالك من طرق العربية في أفسح مسالكها، ملك النجاة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك - رضوان الله عليه - كتاب جمع الفوائد جمع كثرة، وأفصحت كلماته التي غلبت قيمتها فكان كل كلمة منه درة، لا ينازع في فضله من دخل من باب الاشتغال إليه، وإذا عد غيره من الفضلات فلا شك في أن العمدة عليه، طالما جاد بالنفع المتعدي فكان شكره لازما، وعد حازما من كان بإسكانه في منازل التقدم جازما، جمع بين براعة العبارة والتنقيح، واعتنى بالإيجاز فاغتنى بالتلويح عن التوضيح، وحشا أصداف المسامع دررا لا عهد لها بمثلها، فظن بعض الطاغين أنه سار في صعب الطرق وفي الواقع لم يسر
1 / 18
إلا في سهلها وإنما أتى الطاعن من قبل غموض العبارة عن نظرة القاصر، ومني بضعف الإدراك وفقد الإسناد فأصبح لا قوة له ولا ناصر.
هذا: وإني لما قدمت في أواخر شعبان المكرم من سنة عشرين وثمانمائة إلى كنباية من حاضرة الهند- عمرها الله (تعالى) بالإسلام وشاد أرجاءها بالأئمة الأعلام- وجدت فيها هذا الكتاب مجهولا لا يعرف، ونكرة لا تتعرف، قل من يشعر باسمه أو مسماه، أو يلمحه بالنظر فيكشف معماه ولا يجد المرء هناك منه ولا له أصلا ولا شرحا، ولا يبرح المتلفت إلى ورود مناهله يكابد ظمأ برحا، واتفق أني استصحبت منه السفر نسخة واحدة تخذتها رأس مال للنظر، وكانت بالفوائد على عائدة، ورآها بعض الطلبة قلمحها بعين الإحسان، وناجاه لسانها بألفاظ عذبة، فذاق منها حلاوة اللسان، إلا أنه رأى في كثير من الأماكن أبكار معان تحجبت بأبواب معلقة، فسألني أن أشرح هذا الكتاب شرحا يفتح أبوابه، ويذلل صعابه، ويجلو
1 / 19
عرائسه للأفهام، ويعقد الخنصر على ما يكشفه من الإبهام فاعتذرت أولا بأني لست من رجال هذه الصناعة، وأن فكري في تحصيل فوائدها مزجى البضاعة، وثانيا بأن هموم الحوادث والغربة قد أجلبت على بخيلها ورجلها، وحملتني جبال أنكاد تفتت حصاة القلب من أجلها.
وثالثا بفقدان الشروح في هذه البلاد، وعزة ما أحتاج إليه من الكتب التي أفدي بياض أياديها بالسواد، حتى لقد وقعت على نسخة من شرح ابن قاسم أتى بها إلي من أواصل، فقلت: لعلي أذود بها عن مقاصد الكتاب وأصاول، وأستعين بها فيها- وإن كان يسيرا- على ما أنا له من الشرح أحاول. وراجعت النظر فإذا المرام الذي تخيلت مما تقصر عنه يد المتطاول لما في هذه النسخة من اختلال لا يرى معه الناظر لمقدمات القصد
1 / 20
إنتاجا، وسقم لا يجد له طبيب الفهم دواء ولا يستطيع له علاجا، فكيف لي مع هذه المهالك بالوصول إلى ذلك المطلب؟ وأني أظفر بتذليل الصعاب وقد عز ما أتطلب؟ وبينما أنا أقدم في الإجابة رجلا وأؤخر أخرى، وأسوف الطالبين بالنجاز، والتسويف بالفقير أحرى، وأخشى معرة الفضيحة، وأؤثر الستر على القريحة القريحة، وأعلم أن أعراض المصنفين أغراض لسهام ألسنة الحساد، وأن حقائب تصانيفهم معرضة لأيدي النظار تنتهب فوائدها ثم ترميها بالكساد. والفكر يشير إلى أن الإجابة ربما تبرد كبدا حرى، وأن التأليف ربما انتفع به فأجرى لصاحبه أجرا، فابتهجت بتلك الإشارة وانتهجت طريقها التي أهدت لطائف البشارة، وأقبلت على إسعاف الطالب بمطلوبة، وأعرضت على الجارين على نهج الحسد/وأسلوبه، وقلت: هب كلا بذل في متابعة الهوى مقدوره، والتهب حسدا ليطفئ نور البدر ويأبى الله إلا أن يتم نوره فهل هي إلا منحة أهداها الحاسد من حيت لا يشعر، وفعلة ظن أنها تطوي جميل الذكر فإذا هي تنشر؟:
1 / 21
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
ولما تحرك العزم لإسكان هذا الشرح في منازل الوجود، وسمح الفكر به يبذل ما هو عنده من الفوائد موجودة، وشاء الله أن يكون أفق الهند منشأ لظهوره، وسماء لطلوع بدره وسفوره، رأيت أن أتوسل به إلى الوفادة إلى الأرض التي نشأ فيها وربا في حجور نواحيها على ما أناخت بأبوابه ركائب الوفود، وصدرت عنه مملوءة الحقائب بعجائب الكرم والجود، إمام العصر الذي تقدم فقامت الرعايا صفوفا على أقدام الطاعة لإمامته، وخلف السلف الماضين في العدل والإحسان فأدام الله أيام خلافته، سلطان العالم الذي أصاب بسهام آرائه الشريفة أشرف الأغراض، وسما عرضه النقي إلى أن أصبح كالجوهر بين الأعراض، وقضى عدله لقطر الإسلام بالعمارة وعلى ديار الكفر بالخراب، وأورد العفاة مناهل كرمه الصافية وصير شراب العداة كالسراب، وإن
1 / 22
صعبت مقاصد المقترين فبيده أزمة التسهيل والمنح، وإن أغلقت دونهم أبواب المكارم فهو على الحقيقة أبو الفتح، مولانا السلطان الأعظم، ملاذ سلاطين العرب والعجم، حامي بيضة الإسلام، ماحي ظلم الظلم بنور العدل في الأحكام، عالم السلاطين سلطان العلماء، عظيم السادات سيد العظماء، المؤيد بالنصر والفتح المبين، ناصر الملة والحق والدين، أبي الفتح أحمد شاه السلطان بن السلطان محمد شاه بن السلطان مظفر شاه ﵁ وأرضاه):
إمام أحاديث العلا عنه أسندت ... فبادر لكي تروي لأحمد مسندا
حياة لمظلوم هلاك لظالم ... فبالبأس والإحسان أشقى وأسعدا
فكم من عفاة نحوه قد ترددت ... على أنه في برهم ما تردد
ولم تحو أخبار السلاطين غاية ... من الرفع إلا كان في المحال مبتدا
لقد وزن الأفعال بالعدل دائما ... وعرف أسبابا تنجي من الردى
فلم ينصرف عن رتبة الفضل إذ أتى ... بوزن وتعريف أبانا عن الهدى
وتلك رأيناها لأحمد سنة ... فعد لحماه تشهد العود أحمدا
جعل الله المماليك منظومة في سلك ملكه، وأقطار الأرض جارية في حوزه
1 / 23
وفلكه، فحينئذ تركت الأقلام تسعى في كتابة هذا الشرح على الرؤوس، وطرزته برسم هذا السلطان الذي يثبت بوجوده كل سرور وينتفي كل بوس، وحسن عندي أن أتوسل بذلك إلى أبوابه الشريفة، وأتوصل إلى الدخول تحت ظلاله الوريفة، على أني على العجز والتقصير مجبول. وقد أبديت وجوه معذرتي والعذر عند كرام الناس مقبول.
وسميت هذا الشرح بـ "تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد" وبالله أستعين، في القول والعمل، وإياه أسأل أن يبلغنا من خير الدارين غاية الأمل بمنه ويمنه.
1 / 24
ولنقدم أمام الشرح كلاما يتعلق بترجمة المصنف فنقول:
هو الإمام العلامة المقرئ النحوي اللغوي الحافظ المشهود بجلالة القدر ورفعة الدرجة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ابن محمد بن عبد الله) أيضا ابن مالك الطائي الأندلسي الجياني (بجيم مفتوحة وياء مثناة من تحت مشددة فألف فنون فياء) (نسب) (نسبة إلى جيان) بلد من بلاد الأندلس. ولد في / سنة ستمائة، ونشأ واعتنى بعلوم
1 / 25
العربية فأتقنها ونبغ فيها، وحاز قصب السبق، وغرب ثناؤه وشرق، وتناقلت الركبان حديث فضله حجازا وعراقا:
فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغنو مغردا
ارتحل على حماة من البلاد الشامية، وأقام بها مدة ونشر بها علما جما، ثم استوطن دمشق، وعكف بها على الإفادة وانتفع به خلائق، ولم يزل على ذلك إلى أن توفى بها في شعبان سنة اثنين وسبعين (بالياء الموحدة) وستمائة - رحمة
1 / 26
الله (تعالى) عليه - ودفن بفسح جبل قاسيون. وقال صاحبه الشيخ الإمام بهاء الدين (بن) النحاس الحلبي ﵀ يرثيه:
قل لابن مالك ان جرت بك ادمعي ... حمرا يحاكيها النجيع القاني
فلقد جرحت (القلب) حين نعيت لي ... فتدفقت بدمائه أجفاني
لكن يسهل ما أحس من الأسى ... علمي بنقلته إلى رضوان
فسقى ضريحا ضمه صوب الحيا ... تهمي له بالروح والريحان
قرأ النحو والقراءات على ثابت بن محمد بن يوسف بن خيار أبي
1 / 27
طاهر الكلاعي اللبلي، وقرأ كتاب سيبويه علي بن أبي المرشاني.
1 / 28
ومن مشايخه ابن يعيش شارح " المفصل"، لازمه مدة ثم حضر عند تلميذه ابن عمرون فأعجب به وترك مجلس ابن يعيش.
ويقال: أنه جلس عند أبي علي الشلوبين بضعة عشر يوما.
قلت: وقد ذكر الشيخ تاج الدين التبريزي في أواخر شرحه "للحاجبية النحوية" أن ابن مالك جلس في حلقة تدريس ابن الحاجب ﵀
1 / 29
وأخذ عنه (واستفاد منه)، ولم أقف على ذلك لغيره، ولا أدري من أين أخذه والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن تصانيفة " الإعلام بمثلث الكلام" كتاب بديع في بابه و"التوضيح في إعراب أشياء من مشكلات البخاري" أبان فيه عن اطلاع واسع ومادة غزيرة، و"قصدته الطائية" في الفرق بين الظاء والضاد، وشرحها، و"قصيدته اللامية" في أبنية الأفعال و"عمدته" في النحو وشرحها، وأرجوزته الكبرى المسماة "الكافية الشافية" وشرحها، وأرجوزته المختصرة من الكبرى (وتعرف) بـ "الألفية"، وجل اشتغال الطلبة المصريين في هذا
1 / 30
الزمان بها. قال ابن رشيد:
ونظم رجزا في النحو عظيم الفائدة تستعمله المشارقة، ثم نثره في كتابه المسمى: بـ "الفوائد النحوية والمقاصد المحوية"، ثم صنف كتابه: "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد"، تسهيلا لذلك الكتاب وتكميلا، وإنه لاسم طابق مسماه وعلم وافق معناه، غير أنه في بعض الأبواب يقصر عن معتاده ويترك ما ارتهن في إيراده، فسبحان المتفرد بالكمال.
قلت: وقد قرظ سعد الدين بن العربي الصوفي ﵀ الكتاب المذكور المسمى "بالفوائد النحوية" فقال:
إن الإمام جمال الدين فضله ... إلهه ولنشر العلم أهله
1 / 31
أملي كتاب له يسمى الفوائد لم ... يزل مفيدا لذي لب تأمله
وكل مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له
فظن الصلاح الصفدي أن هذا تفريط لـ (تسهيل الفوائد) فقال في كتابه المسمى بـ "فض الختام عن التورية والاستخدام": هذا في غاية الحسن لو كان الكتاب المذكور يسمى بـ "الفوائد" وإنما اسمه: "تسهيل الفوائد" فذكر المضاف إليه وترك المضاف الذي هو العمدة، فجعل التورية بسبب ذلك مقدوحا فيها، وقد علمت اندفاع ذلك، وإنما نشأ له هذا الوهم من عدم اطلاعه على الكتاب المسمى بـ "الفوائد" وهو معزور لعزة وجوده.
1 / 32
رواية الدماميني للتسهيل
قلت: وأنا/ أروي كتاب التسهيل هذا عن شيخنا برهان الدين ابراهيم ابن أحمد بن عبد الواحد الضرير الشامي المقيم بجامع الأقمر من القاهرة المصرية، كان ﵀ (تعالى) - أخبرنا به إجازة، قال: أخبرنا الشيخ أثير الدين أبو حيان سماعا عليه، قال: أخبرنا (الشيخ)
1 / 35
ابن أبي الفتح البعليكي إجازة، قال: أخبرنا الإمام جمال الدين محمد بن مالك إجازة قال:
1 / 36
مقدمة التسهيل وشرحها
الجار والمجرور (المضاف) في محل نصب على الحال، وهو ظرف مستقر متعلق بمقدر عام (محذوف) (أي) ملتبسا باسم الله، والمعنى بحسب القرينة: متبركا باسم الله، لكن ذلك لا يوجب كونه ظرفا لغوا، كما في الجار والمجرور من قولك: زيد على الفرس، فإنه متعلق بكون عام، أي: كائن على الفرس، وهو بحسب القرينة بمعنى راكب، فيجعل ظرفا مستقرا لا لغوا، وصاحب تلك الحال هو الضمير المستكن في عاملها المقدر، إذ المعنى: متبركا باسم الله أبتدئ الكتاب.
"حامدا لله" حال بعد حال، ترك المصنف عطفها على الأولى إشعارا بالقصد إلى التسوية بين التسمية والحمد في جعل كل منهما مبتدأ به، ليتوصل بذلك إلى الجمع بين الحديثين الواردين في ذلك: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه
1 / 37
مقدمة التسهيل وشرحها
ببسم الله فهو أبتر" و"كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم"، فوقع الابتداء بالتسمية حقيقة إيثارا لمتابعة الكتاب العزيز وما عليه الإجماع، ووقع بالحمد له أيضا، لكن بالإضافة إلى ما بعده، والابتداء أمر عرفي يعتبر ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشروع في البحث، فكل من الحالين المذكورين، وما بعدهما مقارن (له)، ويقع في بعض النسخ بعد التسمية لفظ (قال) مسندا إلى المصنف ﵀، وبعد ذلك قوله: حامدا لله. ولا يخفى أن ما في هذه النسخة مانع من حمل الكلام على ما قررناه آنفا، وكأنه -الله أعلم- من تصرف النساخ.
1 / 38