مشكلة الموسيقى الشرقية
ليس لدينا في الشرق فن موسيقي بالمعنى الصحيح.
هذا هو الحكم الذي يرمي هذا القسم من الكتاب إلى إثباته. وهو بلا شك حكم قاس، قد يرى فيه الكثيرون تجنيا على الفن الموسيقي في بلادنا الشرقية. غير أنني لن أذهب في إيضاح رأيي مذهب أولئك الذين يكتفون بالعبارات الحماسية، ويهيبون بالعوامل الذوقية وحدها من أجل إثبات صواب آرائهم؛ فهؤلاء - رغم أن حدسهم كثيرا ما يكون صادقا، وحماستهم أمينة مخلصة - يمكن الرد عليهم برأي مضاد يمثل وجهة النظر العكسية، وعندئذ يظل الخلاف سجالا بين الرأيين، دون الوصول إلى حل حاسم له، طالما أن العوامل الذوقية هي وحدها التي تحكم في هذا الخلاف؛ لذا آثرت أن أقدم لرأيي هذا أسبابا وحججا عقلية خالصة، تقف بجانب العنصر الذوقي وتؤيده، ورأيت أن ألجأ إلى طريقة التحليل المنطقي الهادئ؛ حتى تظل مناقشة هذا الموضوع الهام منحصرة في المجال العلمي وحده.
وأود - قبل أن أنتقل إلى المناقشة التفصيلية - أن أشير إلى مسألة هامة، هي مسألة العلاقة بين الموسيقى الشرقية والغربية؛ ففي خلال التحليل التالي، يجد القارئ كثيرا من المقارنات بين الموسيقى في الشرق وفي الغرب، أو - كما أفضل أن أسميهما - بين موسيقانا المحلية وبين الموسيقى العالمية. وقد يرى البعض أن هذه المقارنة غير مشروعة، ما دامت تقوم بين نظامين متباينين لكل منهما طبيعته ومقوماته و«بيئته» الخاصة. وأسارع منذ البداية فأنبه إلى أن هذا الرأي - في نظرنا - أبعد ما يكون عن الصواب؛ فالفارق بين الموسيقى الشرقية والغربية ليس فارقا في النوع، وإنما فارق في الدرجة فحسب؛ أعني أن المقارنة بين نظامي الموسيقى ممكنة بوصفها مقارنة بين نظام قطع شوطا بعيدا في طريق التقدم، ونظام آخر لا يزال يسير في أولى مراحل الطريق. وكل ما يبدو من هوة شاسعة بينهما، إنما يرجع إلى عمق تجربة الغربيين في هذا المضمار، واكتسابهم خبرات تحتاج إلى جهود هائلة ووقت طويل لتحصيلها. أما إقحام موضوع «القومية» في هذا المجال، فهو دعوى باطلة، سوف نفندها خلال بحثنا في هذا القسم.
ولنبدأ بتناول الموضوع من أعم نواحيه؛ فمما لا شك فيه أن من علائم تقدم أي فن أن يستطيع الوقوف على قدميه بمجهوده الخاص، وألا يكون في حاجة إلى فن آخر يكمل التعبير عن معانيه. وفي هذا رأينا الموسيقى الغربية قد استقلت عن الشعر والغناء منذ زمن بعيد، وتمكنت - بعد تطور طويل - من أن تؤدي رسالتها التعبيرية كاملة، دون حاجة إلى معونة أي فن آخر، وأصبح الشعر أو الرقص لا يضاف إلى الموسيقى من أجل ملء فراغ فيها، بل من أجل إيجاد جديد من الفن الموسيقي الشعري، أو الموسيقي الراقص فحسب.
فما هي الخطوات التي خطتها الموسيقى الشرقية في طريق الاستقلال؟ من الواضح أن هذه الموسيقى تقف عاجزة تماما عن التعبير عن أي معنى أو أية عاطفة؛ فالموسيقى الشرقية لا تملك بذاتها أية قدرة تعبيرية، وإنما تكاد تجربتنا الموسيقية كلها تنحصر في الأغاني وحدها. فإذا بحثت عن موسيقى خالصة، فلن تجد إلا محاولات بدائية قصيرة خفيفة، لا تعبر عن شيء، وليس لها شأن يذكر بجانب الأغاني، ولا تؤثر على الجمهور أدنى تأثير، رغم سهولة فهمه لها؛ إذ إنها بدون كلمات الأغنية عاجزة تماما. بل لقد كنا - حتى الأمس القريب - نطلق على الموسيقى الخالصة اسما ذا دلالة عميقة، هو اسم «الموسيقى الصامتة»! كأن الموسيقى بطبيعتها يجب أن تكون كلامية لتكون «ناطقة»، وكأن الموسيقى وحدها فن أخرس، وأصواتها المتعددة بأسرها «صامتة» إن لم تصاحبها كلمات الأغنية! ولا جدال في أن اعتماد الموسيقى على الأغنية وحدها هو أوضح مظاهر تأخرها؛ إذ إن الأغنية بطبيعتها محدودة المجال، تكفي الكلمات فيها - في كثير من الأحيان - للتأثير على السامعين، مهما كانت سذاجة الموسيقى التي صيغت فيها. والحق أن لدينا من الأغنيات ما لا يشيع إلا بفضل إعجاب السامعين بألفاظها، أو تقديسهم لمعانيها، في الوقت الذي تصل فيه أنغامها إلى أقصى درجات السذاجة والإملال!
فحين تتحدث إذن عن فن الموسيقى الشرقية، ينبغي أن نذكر دائما أن هذا الفن لم يصل بعد إلى درجة الاكتفاء الذاتي، وأنه لا زال فنا للأغاني، كما كان الحال في الموسيقى الغربية منذ ما يقرب من أربعمائة عام! فنحن نستعين بالألفاظ دائما في تذوق الموسيقى، وفي إضفاء معنى عليها، ما دامت موسيقانا الخالصة - إن وجدت - خالية من كل معنى. بل إن وحدة الهدف بين الموسيقى والكلمات في الأغنية الواحدة تكاد تكون مفقودة؛ إذ إن تلحين الأغنية يصلح لأية أغنية إذا اتفقت معها في الوزن الشعري، ومن الممكن أن تحل موسيقى أغنية حزينة محل موسيقى أغنية مرحة، دون الشعور بأي تنافر بين الكلمات والألحان.
وليس هنا مجال الحكم على العنصر الكلامي في الأغنية الشرقية، ما دام هدفنا هو بحث الموسيقى ذاتها. وحسبنا أن نشير هنا إلى ما يمكن أن يلاحظه أي ذهن مدقق على معاني هذه الأغنيات من رومانتيكية ساذجة، واهتمام مفرط بمشكلة الحب يعبر عن التعقيدات الجنسية التي تعانيها أجيالنا الحالية في الشرق أوضح تعبير، بل يزيد هذه التعقيدات بالتنبيه إليها والإلحاح عليها؛ كل هذا في قالب يغلب عليه الحزن واليأس، ويعكس ما ظلت شعوبنا الشرقية تعانيه طويلا من حرمان، وما خدعت به من تزييف لأهداف الحياة، حتى أصبح محترفو الموسيقى عندنا يتبارون في التأوه والتباكي، وتقاس مكانة كل منهم تبعا لمقدار ما يستطيع استدراره من دموع!
فعالمنا الموسيقي إذن ينحصر في نطاق ضيق للغاية، هو نطاق الأغنية، وحتى في هذا النطاق الضيق لا تؤدي الموسيقى وظيفتها الصحيحة على الإطلاق. ولنقف الآن عند هذه الملاحظة العامة؛ لنبحث في عيوب التلحين في الموسيقى الشرقية، مفهومة بالمعنى الذي أوضحناه هنا. وسوف نسترشد في هذا التحليل بالتقسيم الذي ذكرناه من قبل لعناصر اللغة الموسيقية، وهي اللحن، والإيقاع، والتوافق الصوتي، والصورة أو القالب.
اللحن في الموسيقى الشرقية يتميز بطابع فريد ينبغي أن نحاول استخلاصه واضحا؛ حتى يتسنى لنا إدراك نواحي النقص فيه إذا قورن باللحن في الموسيقى الغربية. ولنبدأ أولا بالكلام عن السلم في الموسيقى الشرقية؛ فكثير من المتحمسين لهذه الموسيقى - أو على الأصح من المشتغلين بها نظريا أو عمليا - يرون أن للموسيقى الشرقية ميزة تفخر بها على الموسيقى الغربية، هي تعدد السلالم، بينما تقتصر الموسيقى الغربية على سلمين رئيسيين: الكبير والصغير. وفي رأينا أن هذه المسألة ذاتها لا ينبغي أن تكون موضوع فخر على الإطلاق؛ ذلك لأن السلم الموسيقي لا يعدو أن يكون «الحروف» التي تصاغ بها كلمات اللغة الموسيقية وجملها. وتعدد هذه الحروف، أو إجادة كتابتها بخط جميل، لا يعني أن القطعة التي صيغت بها هي قطعة رائعة بالضرورة؛ فالعبرة دائما بالموسيقى التي تؤلف، لا بكثرة السلالم المستخدمة في تأليفها. وبعبارة أخرى: فالحكم على أي نظام موسيقي بأن له ميزة بفضل السلالم التي يصاغ بها، هو حكم باطل من أساسه؛ لأن السلالم ما هي إلا الحروف الأبجدية للحن، وأساس الحكم ينبغي دائما أن يكون هو اللحن ذاته. وما أشبه ذلك بالقول: إن اللغة الصينية لا بد أن تنتج آدابا تفوق آداب كل اللغات الأخرى؛ لأن فيها آلاف الحروف الهجائية! فالمبدأ العام الذي ينبغي أن نسترشد به في هذه المشكلة هو أن الحروف ذاتها لا تعني شيئا، وإنما العبرة دائما بالفكرة النهائية التي تستخدم هذه الحروف أدوات لنقلها.
Page inconnue