ومن أمثلة ذلك ما يلاحظه موسيقي أمريكي معاصر هو
Roger Sessions
من أن الفنان قد أصبح خاضعا لمشيئة السوق، ولما يمليه عليه المتعهد بتنظيم أعماله الفنية ونشرها، ومن أن المستمع قد أصبح «مستهلكا» ينبغي إرضاؤه بطريقة لا تختلف كثيرا عن الطرق التجارية المعتادة
1
ولا شك أننا لا نستطيع في مثل هذه الظروف أن نتحدث عن تحرر موسيقي كامل، طالما كان الفنان خاضعا لتقلبات السوق ومقتضياته. غير أن ما يقيد حرية الفنان في مثل هذه المجتمعات هو ذاته ما يقيد حرية كل فرد آخر فيها، وأعني به الاستغلال الجشع الذي تتميز به الشركات الكبرى في معاملاتها. وفي مثل هذه المجتمعات لا يكون من المستغرب أن نجد الفن الموسيقي الصحيح يعاني تأخرا كبيرا.
وإذن فلنا أن نقول: إن فنا كالموسيقى يقتضي - إذا شاء أن يصل إلى التحرر الكامل في أداء وظيفته - أن يتخلص من تحكم الاستغلال التجاري، بحيث تتوافر للفنانين حياة مستقرة هادئة، تضمن للكفاءات الصحيحة منهم أن تظهر وتتفوق بمجهودها الخاص، دون أن تتدخل العوامل الاستغلالية المصطنعة في رفع شأن البعض وخفض البعض الآخر؛ لاعتبارات قد لا يكون لها في كثير من الأحيان صلة بالفن ذاته. ومع ذلك، ففي وسعنا أن نقول: إن الموسيقى، على الرغم من هذه القيود التي لا زالت تكبلها في كثير من المجتمعات، قد أصبحت فنا إنسانيا شاملا، وتجاوزت وظيفتها نطاق التعبير عن مقتضيات فئات قليلة من الناس، فأصبحت تتحدث بلسان الإنسان بوجه عام، وترتبط بمشاكله الحقيقية أوثق الارتباط. •••
شونبرج.
فإذا انتقلنا إلى الحديث عن التطور في أسلوب الموسيقى، أو في طرق أدائها، لوجدنا أن هذا التطور قد سار دائما نحو تحقيق الغاية العامة التي تحدثنا عنها من قبل؛ فكل الكشوف التي استحدثها الموسيقيون منذ عهد باخ حتى عصرنا القريب، كانت ترمي إلى زيادة القدرة التعبيرية للموسيقى، وإلى توسيع نطاق لغتها؛ حتى تفي بمقتضيات هذا الفن الإنساني الرفيع.
ولقد ظل التطور في هذا الطريق يسير متصلا، فيأتي كل فنان بتجديدات رائعة، سرعان ما تندمج في التراث الموسيقي القديم؛ لتكون معه مركبا أعمق وأغزر مما عرف من قبل. وأدى تدرج هذا التطور إلى تمكين الناس من فهم كل تجديد ذي قيمة، واستيعابه سريعا، ثم ضمه إلى تلك الذخيرة الضخمة من الكشوف والتجديدات، التي حفل بها تاريخ الموسيقى الحديثة. وكان التجاوب يسود دائما بين جماهير المستمعين وبين الفنانين، هذا إذا استثنينا حالات قليلة من عدم الاعتراف، سرعان ما كان يعقبها تقدير كامل للفنان إذا كانت مؤلفاته تستحق ذلك.
غير أن تاريخ الموسيقى فوجئ في أواخر القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، بحركة موسيقية تكاد ترمي إلى اقتلاع الماضي من جذوره، وإلى استحداث تجديدات - أو على الأصح انقلابات - في الأسلوب الموسيقي، تكاد تنكر التطورات الماضية، أو تترفع عن الاندماج فيها. وللمرة الأولى في تاريخ الموسيقى، يحدث تجديد يعترف مبتكروه ذاتهم بأنه لا يهضم ولا يفهم إلا بعد عناء طويل، ويؤكدون - رغم ذلك - أن عدم فهم الناس له لا ينقص من قدره شيئا، بل يصرون على أن هذا الاتجاه هو وحده الذي ينبغي أن تسير فيه الموسيقى إذا شاءت أن تخرج عن دائرة التكرار الرتيب.
Page inconnue