La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
ومن البديهي في مناقشات جالينوس عن الأطعمة أن النباتات والحيوانات تختلف اختلافا شديدا بحسب البيئة، ونفس الشيء ينطبق على البشر أيضا بالقدر نفسه؛ ومن ثم، فإن المرضعات اللاتي يأكلن النباتات البرية في فترة الجوع التي تتزامن مع الربيع في بلدان البحر المتوسط يكن عرضة للإصابة بأمراض جلدية ينقلنها إلى الأطفال الذين يرضعنهم («عن قوى الأطعمة» 3، 14؛ راجع الفصل الثاني). ومن ثم، فإن أسماك البوري الرمادية التي تعيش في البحر المفتوح تختلف أيضا عن أسماك البوري التي تعيش في البحيرات أو الأنهار الملوثة (3، 24)، ويتضح أن الحيوانات البرية التي تعيش في الجبال تكون لحومها أقسى من لحم الحيوانات المستأنسة التي تربى في السهول (3، 13). وبناء على ذلك، حين تؤكل تلك الحيوانات كطعام فإنها تتسبب في تغيير الأخلاط لدى من يأكلها؛ ففي هذه الأخلاط تكمن خواص أو «قوى» الأطعمة؛ إذ تكمن في قدرتها الكامنة على إحداث تفاعل في التركيبة الجسدية للإنسان. وهذه العلاقة مركبة، ويتناولها كتابا «عن قوى الأطعمة» و«الأمزجة». لكل فرد خواصه الجسمية المتفردة، وكل طعام يكون نتاج بيئته الخاصة، وهذان العاملان كلاهما من العوامل الحاسمة في تحديد نوعية التأثير الذي يقع على الأخلاط. ويدعي جالينوس - في هذا الموقف الصعب - أنه متفوق في فهمه للمبادئ العامة والظروف الخاصة؛ فالآخرون يهتمون بالقواعد الثابتة أكثر من اللازم، ويتجاهلون الاحتياجات الخاصة للمريض؛ فالخبرة - التي يزعم جالينوس أنها لديه بوفرة - ضرورية، على أن تكون خبرة مطوعة بنظرية سليمة (لمعرفة المزيد عن مفهوم «الخبرة المشروطة» لدى جالينوس، راجع فان دير إيجيك 1997).
إذن فمن الممكن أن ندرك من هذا الدليل، ومن المناقشة التي تناولت جالينوس في بداية الفصل السابع، أن جالينوس أنشأ مزيجا متطورا جمع بين التاريخ الطبيعي والنقد الثقافي مما مكنه من علاج المريض في إطار متطلبات عالم الطبيعة ومتطلبات الثقافة الإغريقية الرومانية. وقد يصنفه الكثير من القراء على أنه طبيب ومؤلف متخصص في الكتابات العلمية المتخصصة؛ ولكن من الواضح أن أسلوبه في العلاج متأثر بالفلسفة الإغريقية وبتاريخ ثقافته الإغريقية الرومانية. كما ذكرت في الفصل السابع، فإنه يعالج الجسم الإغريقي بالطريقة الإغريقية، ومن المتوقع أنه كان سيوصي بعلاجات مختلفة لمريض ألماني أو مصري. ومن السمات المعهودة في الثقافة الإغريقية الرومانية الاهتمام بالتمارين الرياضية والأنماط غير العنيفة من ألعاب القوى التي يرد وصف تفصيلي لها في كتاب «عن المحافظة على الصحة». وألعاب القوى المتقدمة شأن مختلف، وهو يستعمل شخصية ميلو الكروتوني الأسطورية عند مناقشته تلك الفئة الخاصة من فئات المرضى. وكما جاء أكثر من مرة في هذا الكتاب، لم يغفل جالينوس طبقة العمال العاديين - كما لم يغفلها أيضا المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف «الحمية 3» - وقد سرد عددا كبيرا من أنشطة العمل التي يصنفها على أنها «تمارين رياضية وعمل» (2، 8). وهذه الأنشطة هي: الحفر والتجديف والحرث وقطف العنب وحمل الأحمال والحصاد وركوب الخيل والقتال في صفوف قوات المشاة والمشي والقنص بالكلاب وصيد الأسماك، وغيرها من المهام التي يمارسها الصناع الماهرون وغير الماهرين، مثل البنائين والحدادين وصناع السفن وصناع المحاريث وصناع السلع المستخدمة في الحرب والسلام. ويشير جالينوس إلى الاختلاف بين هؤلاء العاملين وبينه: «ذات مرة ضللنا الطريق في الريف شتاء، واضطررنا لقطع الأخشاب (على سبيل ممارسة التمارين الرياضية)، واضطررنا كذلك لإلقاء الشعير في الهاون لطحنه وتقشيره، وهي مهام يؤديها الريفيون يوميا (على سبيل العمل)». ومن ثم، من الممكن تفسير الوصفات العلاجية لجالينوس فيما يخص النظام الغذائي وأسلوب الحياة بأنها أكثر شمولية من الناحية الاجتماعية من معظم الوصفات العلاجية، وبأنها شاملة بالطبع من الناحية الطبية.
سبق أن ذكرنا في عدد من المواضع تأثير أفلاطون في تاريخ الفكر على موضوع الطعام، وذكرت اهتماماته في «محاورة غورجياس» عن المتعة وعن الأطباء النافعين والطهاة ذوي المظهر البراق مثلا أكثر من مرة. وبخصوص النظام الغذائي، يذكر أفلاطون في كتاب «الجمهورية» شخصية هيروديكوس من السيليمبري، وقد كان مواطنا وربما مؤلفا كان يرى أفلاطون أنه كان يمضي معظم وقته في الاهتمام بالطعام. وفي هذه القصة، كان رجلا غنيا يخصص معظم اهتمامه لأمور تافهة نسبيا متعلقة بالجسم، وذلك على حساب الأمور الأهم المتعلقة بالروح. ولم يكن أفلاطون معارضا للمتعة في المطلق، بل كان معارضا فقط للمتع غير اللائقة، وهي المتع التي ترضي الجسم على حساب الروح. وناقش عدد من النقاد التعليقات التي تتناول هيروديكوس، وربطوا بينها وبين البحوث القديمة التي تتحدث عن النظام الغذائي؛ إذ ألمحوا إلى أن أعمال المؤلف التابع لمدرسة أبقراط وأعمال ديوكليس وجالينوس كانت تلبي متطلبات وسواس المرض الذي كان يعاني منه الأغنياء المدللون الذين لم يجدوا اهتمامات أفضل ليشغلوا أنفسهم بها؛ ولعل إديلشتاين (1967) من الأمثلة البارزة للغاية. ولا شك في أن هذا التلميح يحمل شيئا من الحقيقة؛ فالأغنياء في الكثير من الثقافات المختلفة في الكثير من العصور كان بوسعهم شراء علاجات خاصة، وكانوا يحاولون تجنب الموت على نحو أقوى من أبناء بلادهم الفقراء. ووسواس المرض ظاهرة منتشرة أيضا؛ فهي ليست مجهولة في المجتمعات المعاصرة؛ فضلا عن ذلك، كان الأطباء ومن يعملون في المهن المرتبطة بالطب - ولا يزالون - يمارسون ضغوطا تجارية لرغبتهم في تحقيق أرباح من مخاوف الناس المتعلقة بالصحة ووزن الجسم (سواء أكانت الوزن الزائد أم النحافة) والموت.
مع ذلك، فإن تهمة وسواس المرض هي مشكلة من الدرجة الثانية، وذلك فيما يتعلق بمجموعة «الحميات» التي ألفها مؤلف تابع لمدرسة أبقراط والكتابات التي جاءت بعدها. كان النظام الغذائي - كما رأينا منذ برهة - فرعا من فروع الطب الأساسية الثلاثة. وبالإضافة إلى التخصص الشقيق للنظام الغذائي ، وهو علم العقاقير (الذي كان عادة ما يستعمل أنماطا أكثر حرافة من الأطعمة نفسها، وذلك من بين أشياء أخرى مثل المعادن والصخور)، كان النظام الغذائي يمثل نسبة الثلثين من التدخل الطبي، أما الثلث الثالث فكانت تمثله الجراحة، وهي الإجراء التدخلي الخطير، وكان الجراحون يجرونها دون دراية بالمطهرات وإمكانية حدوث العدوى البيولوجية. وكان فكر أبقراط يعتمد أيضا في نصائحه الغذائية على نظرية قائمة على فكرة العناصر الكونية، وكانت تصنف الكائن البشري في إطار منظومة الطبيعة جنبا إلى جنب مع النجوم والحيوانات الأخرى والنباتات. ورأينا أيضا أن الأغنياء المدللين خصصت لهم مساحة كبيرة في بحث «الحمية 3» الذي تحدث عنهم بالتفصيل، كما قد يحدث في أي عيادة في العصر الحديث في شارع هارلي ستريت في لندن الذي يشتهر بكثرة العيادات. ولكن البحث اهتم أيضا بالسواد الأعظم من الناس، وهم من كانوا يضطرون للعمل بحكم الحاجة. ومن الممكن أن نشير إلى أن فئات العمال التي تحدث عنها البحث كانت تشمل من يسافرون برا للعمل، ومن يتطلب عملهم السفر بحرا. ولماذا هذه الفئات وليس منهم البناءون أو باعة الخضراوات؟ ربما يكمن السر في التنقل؛ فالعمال الذين يضطرون للسفر والتنقل كانوا عرضة لاختلاف درجات الحرارة («مرتفعة على عكس ما هو مناسب، أو منخفضة على عكس ما هو مفيد»، بحث «الحمية»، 3، 68)، وهو ما كان يتسبب في عدم ثبات النظام الغذائي اليومي. قدم ديوكليس أيضا نصائح للمسافرين (الشذرة 184 فان دير إيجيك)، وتركز النصائح على المتطلبات المعينة التي يقتضيها المشي والنظام الغذائي الخاص الذي يتطلبه؛ وذلك بحسب الموسم.
يقدم جالينوس فئة مختلفة من المرضى، وهي الريفيون من آسيا الصغرى، وبلغ فضوله حدا جعله يسأل كل فئات الناس عما يأكلونه وعن أسباب ذلك.
كما يقدم تعقيبا اجتماعيا في شكل نوادر وطرائف؛ مما يجعله كاتبا يتسم بأسلوب جذاب ينتمي إلى المدرسة نفسها التي ينتمي إليها أثينايوس وسيوتونيوس. ويعرض جالينوس في كتابه «هايجينا» أو «عن المحافظة على الصحة» نصائحه المتعلقة بحياة صحية، كما سبقه في ذلك المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي كتب بحث «الحمية 3»، وكما سبقه في ذلك ديوكليس الكاريستوسي في الشذرة 182 فان دير إيجيك. وتركز شذرة ديوكليس على النظام الغذائي اليومي وتوزيع الوجبات والنوم والمشي والنشاط الجنسي، ويستند بحث جالينوس الطويل إلى المدى العمري للإنسان، وهو يبدأ بالرضيع والطفل وينتهي بالشيخ. وجالينوس مهتم مثلا بحياة الفتية الطائشين: على غرار ما قدمه بشأن الطهاة، تطلعنا طريقة عرضه على اهتماماته بالمسرحيات الكوميدية، وتساعدنا في قراءة تلك المسرحيات في سياق أشمل (راجع الفصلين السابع والتاسع).
سبق أن ناقشنا دور الطهاة في موضع آخر من هذا الكتاب، وليس ثمة أدلة تثبت وجودهم نفسه أفضل مما جاء في النصوص الكوميدية التي يظهرون فيها كشخصيات نمطية مضحكة. ويذكرهم أفلاطون ويذكرهم كذلك الكتاب المتخصصون في الطب، والفكرة المهمة هنا هي هل الطبيب يتبع النقيضة الأفلاطونية التي تقارن بين الطبيب النافع والطاهي الذي يهدف إلى إمتاع حاسة التذوق. ويتناول بحث «الحمية 1» السمات العامة للطهي، وفيه يقدم المؤلف دراسة عامة عن مهارات الطهي، ومن بينها (1، 18) الطهاة؛ فهؤلاء «الطهاة يحضرون للناس أطباقا شهية («أوبسا») من مكونات مختلفة ومكونات متشابهة، فيخلطون كل أنواع المكونات ويصنعون من مكونات متشابهة مكونات غير متشابهة، فتتحول إلى طعام وشراب لفرد واحد؛ فلو كان كل ما يحضره متشابها، لخلا الأمر من المتعة». يأتي الطاهي من بين اهتمامات الطبيب في هذا النص الذي يعود لأوائل القرن الرابع قبل الميلاد - فهو غير مستبعد كما يرجو أفلاطون - ومع ذلك يأتي تصويره منسجما مع الأقسام التي تحدث عنها والمرتبطة بالمتعة والبهجة؛ إذ يوجد الطهي الذي يرتبط بالحياة المتحضرة ويسهل عملية الهضم، ثم الطهي الفاخر الذي يقدمه الطاهي المستأجر الذي لا بد من مراقبته بعناية. ومن ناحية أخرى، لا تختلف الأنشطة التي يؤديها الطاهي - من حيث المهارات - عن الأنشطة التي تحدث في الكون التي تتسبب في التغيير عن طريق الخلط والفصل (1، 4). (ونلاحظ فكرة قريبة لذلك أيضا في كتاب «عن الطب القديم» (20)، وفيه لا تكمن أهمية خواص الجبن في حد ذاتها بل من حيث علاقتها بجسم الإنسان.)
شكل 8-1: كان الزنجبيل من الواردات المهمة من البلدان البعيدة. وعلى عكس الفلفل - الذي كانت له استخدامات متعددة - كانت خواص الزنجبيل التي تساعد في التدفئة وإمكانية استخدامه كترياق للسموم تفوق أهمية استخدامه في الطهي فيما يبدو. راجع ميلر 1969: 53-57 ودالبي 2003: 159. يصف جالينوس عقارا صنع لمن فقدوا شهيتهم؛ من العسل وعصير السفرجل والفلفل والزنجبيل والخل. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
تتصدر طرق تحضير الطعام أيضا الشذرة 187 فان دير إيجيك التي كتبها ديوكليس الكاريستوسي؛ إذ يكتب:
نظرا لأن معظم الأطعمة تتطلب نوعا من التحضير الإضافي، ونظرا لأن بعض الأطعمة تصبح أفضل في حالة إضافة أشياء إليها، ونظرا لأن أطعمة أخرى تصبح أفضل في حالة سحب أشياء منها، ونظرا لأن أطعمة أخرى أيضا تصبح أفضل عند تحويلها إلى حالة مختلفة؛ فلعله يكون من المناسب أن نتحدث قليلا عن هذه الأطعمة، ولعل أهم طرق التحضير هذه - للصحة وللمتعة معا - هي تطهير الأطعمة النيئة ... (ترجمه إلى الإنجليزية: فان دير إيجيك)
Page inconnue