La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
ومع ذلك، نجد أن أبرز الأفكار الفلسفية التي ظهرت وأكثرها تكرارا على الإطلاق تتعلق بالترف والمتعة، ونجد أن أعمال المؤلفين من معظم العصور تشمل تحذيرات بشأن الترف (إذ كثيرا ما يرونه خطرا يهدد المواطنين ويكون السبب وراءه الأجانب وغيرهم من الجماعات الخارجية)، وبشأن المتعة أيضا. ولا يرفض المتعة رفضا قاطعا إلا قلة قليلة من المؤلفين، ولكن كان من المعتقد دائما أن المتعة تنطوي على إمكانية لمزيد من صور المتعة الأشد إلحاحا، وأنها تتسم بالنهم عموما. وحتى المؤلفون الذين يعتقد الكثيرون أنهم يؤمنون بالمتعة - مثل إبيقور - يكتبون عنها مستخدمين تعبيرات حذرة جدا، كما سنرى. وسنجد أن الاهتمام بالمتعة في هذا الفصل كثيرا ما يوضع في مقارنة مع مفاهيم الاحتياج أو المنفعة، ونجد مثالا من الأمثلة المتوقعة للمقابلة في الجزء الثاني من كتاب «حديث المائدة» 2 لمؤلفه بلوتارخ:
عزيزي سوسيوس سينيكيو، بعض التحضيرات الخاصة بإعداد مآدب العشاء وحفلات الشراب تصنف على أنها من الضروريات، مثل النبيذ والطعام، وبالطبع الأرائك والموائد. والبعض الآخر عبارة عن وسائل لهو تقدم من أجل المتعة، ولا ترتبط بها أي فائدة ضرورية؛ مثل الموسيقى والعروض المثيرة وفيليب المضحك في منزل كالياس. (من كتاب «حوار المأدبة» من تأليف زينوفون)
وسنرى أن المؤلفين يختلفون في تصنيفهم لما يندرج تحت مسمى المتعة، وما يندرج تحت مسمى المنفعة. ولكن من وجهة نظر أفلاطون وجالينوس وأثينايوس، فإن هذه المقابلة ضرورية من الناحية المفاهيمية بهدف تبرير رؤيتهم للعالم في إطار أخلاقي وفكري مقبول.
وتبرز هذه السمة على وجه الخصوص عند التقليل من شأن النواحي الاجتماعية والدينية للطعام، وعند تعارض احتياجات الجسم مع مخاطر المتعة؛ ففي أعمال أفلاطون، نلاحظ أن الطعام يوصف بأنه مضر في «محاورة جورجياس»، ونجده مقبولا في النسيج الاجتماعي والاحتفالي في كتابي «القوانين» و«حوار المأدبة»؛ ونجده يتحدث عنه حديثا متناقضا في كتابه «الجمهورية». وعلى الجانب الآخر من الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب، في كتاب «عن التقشف» من تأليف فرفريوس التابع للمدرسة الأفلاطونية الحديثة، نلاحظ النظر إلى الطعام بصفته عدو الفيلسوف - أو الحكيم الزاهد - الذي يجب ألا يكون عرضة لمتع الجسد التي يتمتع بها البشر العاديون. سيكون كاتو الأكبر وموسونيوس روفوس من أشد المعارضين لنواح معينة من عادات تناول الطعام لدى الرومان، شأنهما شأن سينيكا والرواقيين.
وكما رأينا في مواضع أخرى، كان القرن الرابع قبل الميلاد فترة مهمة لتطور الفكر في هذا الشأن. كان لأفلاطون دور مؤثر في تحليله للمتعة، وسنبدأ بكتابه «الجمهورية»؛ ففيه يعكف كل من سقراط وأدمينتوس وغلوكون على تحديد العناصر التي ستكون ضرورية لإمداد الجمهورية المثالية بأسباب الحياة، ويحددون الضروريات الأساسية بأنها الحبوب والنبيذ والملابس والأحذية (371). وسيكونون بحاجة إلى مساكن أيضا، وغالبا ما سيكونون عراة وحفاة صيفا، ويرتدون ملابس وأحذية شتاء. وسيتغذون على دقيق الشعير، الذي سيصنعون منه كعكة الشعير أو «المازا»، وسيتغذون كذلك على دقيق القمح الذي سيضعونه على أعواد قصب أو ورقات نباتية ويخبزونه ليصبح خبزا، وسيتكئون على أرائك ريفية مفروشة بخشب الطقسوس وأغصان الآس، وسيأكلون مع أطفالهم ويمضون في شرب النبيذ وارتداء الأكاليل وغناء الترانيم للآلهة، و«يعيشون عيشة رضية معا، ولا يكثرون من الإنجاب بما يفوق طاقتهم، ويحذرون كل الحذر من الفقر والحرب.» وهذه التفاصيل مهمة للمناقشة التي سنتناولها بعد قليل بخصوص الأشياء التي تعد من وسائل الترف، وتشمل التفاصيل حتى الآن الضروريات الأساسية المذكورة آنفا، وهي تتعلق بالطعام والإنجاب والدفء، وكلها ترتبط بالجسد. ويحددون الشعير وكذلك القمح - وهي مفاجأة - بصفتها أطعمة ضرورية، ويذكرون طقوس تناول الطعام مثل الاتكاء وتتويج الرءوس بالأكاليل، ويحددون الاعتبارات الاقتصادية بخصوص الإمدادات الكافية ومخاطر التهديدات الوافدة من الخارج (على افتراض أن جيرانا أقوى يحسدون هؤلاء على ما لديهم). ومن الملاحظ على وجه التحديد وجود تصور لنموذج زراعي، يخلو من أي أطعمة لا تزرع في إقليم أتيكا؛ ولذا، ليست التجارة من بين المقترحات المطروحة. يذكر غلوكون سقراط أن مواطنيه حتى ذلك الوقت يتناولون طعامهم دون أي مكملات من اللحوم والخضراوات للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، أو ما يطلقون عليها «أوبسا». وتعبر هذه الكلمة عن معان متضمنة معينة تعبر عن الانغماس في المتعة والرغبة الجامحة، كما يأتي في ديفيدسون (1997).
ويدرج سقراط «أوبسا» - وهي المكملات الغذائية اللذيذة التي تضاف إلى الحبوب العديمة النكهة - التي تعد ضرورية لصحة الإنسان في ضوء فهمنا للتغذية في وقتنا الحاضر، ويضيف معها أيضا الملح والزيتون والجبن وبصلات الياقوتية والخضراوات الورقية، ذلك «النوع الذي يسلقونه في الريف». وسيتوافر أيضا البلح والحمص والفول لتناوله على مهل، وثمار الآس والبلوط للشي، فضلا عن شرب الخمور باعتدال؛ «هكذا سيعيشون حياة هادئة، ويتمتعون بصحة جيدة، وسيكون من المرجح أن يعيشوا عمرا طويلا ويورثوا نمط الحياة هذا إلى أبنائهم.» ويقول غلوكون إن هذه حياة لا تناسب إلا الخنازير؛ فالضروريات تشمل أرائك للاتكاء عليها، وموائد لتناول الطعام، وأطعمة لذيذة ومقرمشة «كالتي يحظى بها الناس في وقتنا الحاضر». ونجد أن رد سقراط على هذا مثير للاهتمام؛ إذ يقول: «يبدو أننا لا نتأمل في كيفية تأسيس مدينة بقدر ما نتأمل في كيفية تأسيس مدينة مترفة». وهذه ليست مدينة «صحية» بالضرورة، وربما تأوي الظلم، وربما تضطر للدخول في حروب. والعناصر التي يحدد وجودها في مدينة مترفة كهذه هي كما يأتي: الأرائك والموائد وغيرهما من الأدوات المستخدمة في تناول الطعام، والطعام اللذيذ، وصمغ المر، والبخور، والمحظيات، والكعكات، واللوحات المرسومة، والذهب، والعاج. وسيكون في هذه المدينة عدد كبير من أصحاب المهن والصيادين، والفنانين المتخصصين في النحت والرسم والموسيقى، والشعراء ومساعديهم ومنشدي الشعر، والممثلين والراقصين ومتعهدي الأعمال، والحرفيين المتخصصين في صنع كل أنواع الحرف اليدوية بما في ذلك أدوات زينة النساء، وستكون فيها مجموعة من الخدم والمعلمين الخصوصيين والمرضعات والممرضات ومصففي الشعر والحلاقين وصانعي «الأوبسا» والطهاة. «سنكون بحاجة أيضا إلى رعاة الخنازير.»
شكل 7-2: يظهر الفلفل في المؤلفات الطبية والأدبية بدءا من القرن الرابع قبل الميلاد حتى كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس في أواخر العصور القديمة. وكان الفلفل يحظى باستحسان كمادة منكهة، ونظرا لصفاته التي تساعد على التدفئة في الطب (راجع دالبي 2003: 254-255). يصف ميلر (1969: 80) الفلفل باعتباره «السلعة الأساسية للنشاط التجاري للإمبراطورية الرومانية مع الهند». (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
يؤكد أفلاطون أيضا على جزئية مهمة في «محاورة جورجياس»، وهي محاورة مطولة عن الخطابة والمتعة ومجالات من المجتمع قد تفيد أو تضر الفرد والمجتمع. ويرى أن العقل والروح جانبان أرقى لدى الإنسان من الجسد، ولكن حين يتعلق الأمر بالعناية بالجسد، فإن المرء يلجأ إلى أشخاص مناسبين وآخرين غير مناسبين طلبا للنصح. ينصح الطبيب بما يحتاجه الجسد، وينصح الطاهي بما يجلب المتعة؛ وكان لهذا الفصل بين الطب والطهي دور مؤثر في الفكر القديم (وإن كنا رأينا في هذا الكتاب الكثير من الأمثلة لتعاون الطهي والطب في تناغم). يذكر أفلاطون أصحاب مهن بعينهم (518) ممن كانوا مرموقين في أثينا؛ مثل: ثياريون الخباز، وميثاكوس الطاهي، وسارامبوس صانع النبيذ.
وفي غضون ذلك، ظهرت أيضا في المسرح الكوميدي - في القرن الرابع قبل الميلاد - شخصيات معينة مرتبطة بعادات تناول الطعام الراقية، وكان من بينها الطاهي الذي يحضر الطعام وتحدث عنه كثيرا. وكان من الشخصيات الأخرى المتطفل أو المنتفع الذي يستجدي الطعام والشراب دون وجه حق على عكس المشاركين الآخرين، حيث يستجديه بسبب الفقر والظلم، مثل الشحاذين في ملحمة «الأوديسا». وكانت الشخصية الثالثة هي «هيتارا» أو المحظية التي كانت تسلب الرجال أموالهم في جلسة الشراب، وهي قسم من الأمسية مخصص لشرب الخمور. وكل هذه الشخصيات النمطية - التي يدل تكرار ظهورها على قلق مستمر بشأن المشكلة - كانت توضح للمشاهدين المخاطر التي تقترن بالمتعة، وهذه المخاطر تحدق بالرجال على وجه التحديد. يذكر أثينايوس، على سبيل المثال في الموضع (4، 165)، أن المسرحيات الكوميدية كانت تهزأ بشخص اسمه ستيسيبيوس - ابن كابرياس - وكان يميل إلى التبذير («أزوتيا»)، حتى إنه باع ضريح أبيه (وكان هدية من مدينة أثينا) لينفق على حياة الترف والبذخ التي كان يعيشها («هيدوباثيا»). وهذه الكلمة الأخيرة مثيرة للاهتمام؛ فهي تظهر لأول مرة في أعمال زينوفون، وهي عنوان القصيدة الساخرة التي تتحدث عن وصفات الطهي التي ألفها الشاعر أركستراتوس الذي عاش في القرن الرابع (راجع الفصل الثاني).
ويظهر تقييم أكثر إيجابية عن الطعام وعادات تناول الطعام في مجالات فكرية أخرى في العصر القديم. ومن المجالات اللافتة الطب؛ إذ يقع الطعام والطهي في صميم عملية التمدين والتهذيب وفي صميم الجهاز الهضمي، وذلك كما يأتي في الفصل الثامن؛ فالمقصود هو تناول الطعام باعتدال. ويظهر هذا بوضوح في النصوص الطبية بدءا من أبقراط وانتهاء بجالينوس. ويتحدث جالينوس في كتاب «عن قوى الأطعمة» - على سبيل المثال - بأسلوب يستدعي إلى الأذهان أسلوب أفلاطون، وتحديدا في الموضع الذي يعلق فيه على استخدام الطهاة للأعشاب لتحسين الطعم (2، 51، وهو ما استشهدنا به في الفصل الأول). ويعلق أيضا بدهشة على إقبال أهل روما على كبد أسماك البوري الحمراء بعد هرسها ومزجها بصلصة الغاروم وزيت الزيتون (3، 26):
Page inconnue