La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
إن أثينايوس هو أفضل مصدر أدبي فيما يخص جلسات الشراب، فهو يسجل الكثير من مظاهر تلك الجلسات مثل الأكاليل والغناء والرقص، والشعر أيضا، وهي مظاهر ربما لا ترتبط مباشرة بشرب الخمور في أجواء رسمية. ويقدم أيضا الدليل الشامل لأنواع أقداح الخمر، وهو ما يمكن ربطه على نحو وثيق إلى حد ما بالسجلات الأثرية. يكتب أثينايوس معتمدا على تراث جلسات الشراب، بكل ما يتسم به من حساسية ذاتية واستبطان؛ ومن ثم فإنه يصمم طريقة احتساء الخمر التي يتبعها حاضرو مأدبة الحكماء بناء على النموذج الذي وضعه كزينوفانيس في العصر القديم جدا. وبناء على ذلك، نجد أن بلوتارخ - أحد حاضري المأدبة المفوهين - يستهل القصيدة (التي استشهدنا بها فيما سبق) بقوله: «لطالما لاحظت أن جلسة الشراب التي نظمتموها - على غرار كزينوفانيس الكولوفوني - تزخر بالمسرات.» وظهر تراث جلسات الشراب في قالب شعري، وكذلك - بعد كتاب أفلاطون «حوار المأدبة» - في قالب نثري يتناول المناقشات الفلسفية أو الأنشطة المصاحبة لجلسات الشراب. وأصبحت جلسات الشراب الواردة في كتابي أفلاطون وكزينوفانيس بعنوان «حوار المأدبة» هما النموذج الذي سار عليه الكثير من المؤلفين ممن جاءوا بعدهما. ويناقش روميري (2002) هذا التراث؛ إذ يثبت أن أثينايوس يختلف عن معظم خصائص هذا التراث في أنه يولي الطعام أهمية تضارع أهمية النبيذ. ونجد أن الكثير من جلسات الشراب الأقدم - وأفلاطون مثال أولي في هذا الشأن - ينهي مرحلة تناول الطعام بأسرع ما يمكن، حتى تنتقل إلى المناقشة الفلسفية في جلسة مخصصة لاحتساء الخمر باعتدال. وحين لا يتسم تناول الطعام واحتساء الخمر بالاعتدال - كما يحدث بين الفلاسفة في كتابي «حوار المأدبة» و«ليكسيفينيز» من تأليف لوقيان - تجتاح المناسبة فوضى عارمة. ويشير أثينايوس بالطبع في العنوان الذي اختاره «مأدبة الحكماء» أو «مأدبة الفلاسفة» بأن محل اهتمامه يختلف عن سابقيه؛ فبما أنه يكتب في عصر الإمبراطورية الرومانية، فليس من الواضح تماما مدى تفكره في العادات الإغريقية، أو مدى تأثره بالنمط الروماني في دمج تناول الطعام مع شرب الخمر.
كان لإنتاج النبيذ وأعياد النبيذ على مدار العام والطقوس الاجتماعية الفضل في منح النبيذ مكانة قوية في البلدان الإغريقية الرومانية. وكان معظم استهلاك الخمور من النبيذ المحلي، وكذا هي الحال بخصوص الأطعمة الأخرى التي ناقشناها في فصول سابقة، كان المواطنون الفقراء يستهلكون أنواعا أرخص من النبيذ الذي كان في متناول الأغنياء. (كانت هناك استثناءات لهذه القاعدة فيما يبدو في مناطق من الإمبراطورية التي كانت فيما سبق على حدود التأثير الإغريقي الروماني؛ إذ نقرأ أن فرنسا ومصر كانتا تستوردان النبيذ، ثم بدأتا تنتجانه لاستهلاك الأغنياء، أما المواطنون الفقراء فكانوا يشربون الجعة. ولا يبدو أن الفارق كان كبيرا إلى هذا الحد في عام 200 ميلاديا مثلا، بعد ما يزيد عن قرن من الاندماج في النظام الروماني؛ إذ كان الناس لا يزالون يشربون الجعة، ولكن النبيذ كان من السلع التي لم تعد أجنبية في فرنسا بعكس ما كانت عليه في العهد الذي شهد مؤلفات بوسيدونيوس (التي استشهد بها أثينايوس) في عام 100 قبل الميلاد تقريبا.)
وظهرت فيما يبدو فروق واضحة بين الخمور الإغريقية والرومانية؛ فالخمور الإغريقية كانت تنتج أنواعا عتيقة تلقى استحسانا وإقبالا كبيرا. يستعرض لامبرت جوكس (1990) الأنواع المناظرة لها من الخمور الإغريقية الحديثة - التي لا تنافس أنواع النبيذ الرفيعة المستوى التي تنتجها إيطاليا وفرنسا - في مخيلة العامة على أقل تقدير. ولا تسمى الخمور الإغريقية عادة بحسب سنة الإنتاج، ولا بحسب مكان الإنتاج بدلالته المحدودة؛ بل يقال إنها خمور من ثاسوس، أو خيوس، أو لسبوس. يقدم لنا أركستراتوس في الشذرة 59 أولسون وسينس مثالا على ذلك (يقدم أثينايوس المزيد من الأمثلة، ومعظمها مأخوذ من النصوص الهزلية):
حين تكون قد قدمت قربانا كبيرا لزيوس المخلص، عليك أن تشرب نبيذا معتقا كأنه شيخ أشيب الرأس تماما، خصلات شعره الرطبة مزينة بزهور بيضاء؛ نبيذا من لسبوس التي يحيط بها البحر من كل جانب. وأثني على نبيذ بيبلاين من فينيقيا، مع أنه لا يرقى إلى نبيذ لسبوس، وإذا تذوقته سريعا ولم تكن لديك معرفة مسبقة به، فسيبدو لك أن رائحته عطرة أكثر من نبيذ لسبوس؛ إذ إن رائحته تستمر لمدة طويلة جدا. ومع ذلك، حين تتذوقه، تجده رديئا للغاية، وسيحصل نبيذ لسبوس على مرتبة لا تنتمي لفئة النبيذ بل إلى فئة طعام الآلهة ... وتنتج ثاسوس أيضا نبيذا ممتازا، بشرط أن يكون معتقا لعدة مواسم على مدى السنين. وأعرف كذلك أمر الغصون التي تتساقط منها عناقيد العنب في مدن أخرى؛ أستطيع أن أستشهد بها وأمتدحها؛ فأنا ملم بأسمائها كل الإلمام. ولكن أنواع النبيذ الأخرى بلا قيمة بجوار نبيذ لسبوس، ويحب بعض الناس بالطبع امتداح منتجات بلادهم. (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز)
من الواضح أن نبيذا كهذا لو كان يستورد إلى أثينا أو كورنث، لأصبح مختلفا من حيث خصائصه، لكن سعره كان سيزيد أيضا عن سعر أي نظير محلي له. ونجد ما يدل على استحسان أنواع النبيذ هذه في أثينا في الشعر وفي السجلات الأثرية؛ إذ تحتوي المباني التي كانت مخصصة فيما يبدو لبيع النبيذ على بقايا جرار قادمة من الخارج. وكانت أنواع النبيذ الإغريقية أيضا تروق للذائقة الرومانيين. ويقدم كاتو - من بين الجميع - وصفات لصنع أنواع نبيذ على الطريقة الإغريقية، في بحثه الذي يتناول الزراعة. أما الرومان، فشرعوا في إنشاء تجارة نبيذ مختلفة للغاية. وفضلا عن الخمور المحلية الرخيصة - نبيذ سابينا الذي كان يستحسنه هوراس في مزرعته من الأمثلة الشهيرة - كانت تنتج أنواع نبيذ معتقة، خصوصا في التلال الخصبة في لاتيوم وكامبانيا، وتقع بين روما ونابولي؛ ففي هذه الأماكن، أصبح للمناطق الصغيرة أسماء تجارية على نحو يشبه نظام «التقيد بالأسماء الجغرافية»، وأصبحت أنواع النبيذ المعتق - مثل فالرنيان وفونديان وكاكوبان - تباع بأسعار مرتفعة. وكانت تجارة النبيذ تدر عائدات مرتفعة على المستثمرين؛ نظرا لأرباحها الهائلة، ولكنها أيضا كانت تنطوي على مخاطرة كبرى في حالة سوء الطقس. أثبت كل من بورسيل (1985) وتشيرنيا (1986) على الأهمية الاقتصادية والأصداء الثقافية المترتبة على صناعة النبيذ الرومانية؛ ونجد مناقشة وافية يعرضها دالبي (2003: 350-360) وتعرضها مقالات واردة في روبنسون (1994). درس الباحثون باستفاضة انتقال أنواع النبيذ الرومانية، بناء على الأختام التي تحملها جرار النبيذ عامة، وجرار النبيذ التي عثر عليها في حطام السفن خاصة.
وكانت للنبيذ أهمية كذلك في الطب؛ إذ رأينا أنه يمكن استحضار الإلهة هيجيا أو الصحة في بداية جلسة الشراب ونهايتها. والترنيمة الموجهة إليها في نهاية كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» هي في الواقع نفس الترنيمة المنقوشة على حجر في المجمع الطبي في إبيدوروس. وكان وجود الأطباء يرتبط بجلسة الشراب؛ ففي الأعمال الأدبية التي تناولت جلسة الشراب بدءا من أفلاطون حتى أثينايوس، كانت جلسة الشراب كثيرا ما يحضرها طبيب. وتزخر المؤلفات الطبية أيضا بالكثير عن آثار النبيذ على الجسم، ونجد أن الأطباء ممن لهم اهتمامات جغرافية واسعة، مثل جالينوس، يذكرون أنواع النبيذ التي نشأت في مناطق غير مألوفة، كما في بعض الأنحاء في آسيا الصغرى (راجع للاستزادة جوانا 1996).
مقدمة الفصل السابع
إن أهمية اللحوم والأسماك في النظام الغذائي اليومي تعود في جزء منها إلى الوفرة، وفي جزء آخر إلى التفضيل الشخصي. وفي كل الأحوال، نجد الفكرة القائلة إن من علامات الرجولة والخشونة تناول اللحوم دون الاهتمام بطريقة تحضيرها، وإن اهتمام المرء كثيرا بطريقة تتبيل سمكة البوري الحمراء أو سمكة القاروس أمر ينتقص من رجولته، وإن من دلائل الخشونة أن يلتهم المرء كل ما يوضع أمامه بصرف النظر عن طبيعته. وربما كان الإغريق يعشقون الأسماك حقا، ولكن أبطال المعارك كانوا يأكلون اللحوم.
وحتى في الوقت الحاضر، نجد أن الطهي المعقد وما يحظى به من تقدير واستحسان - في الولايات المتحدة على سبيل المثال - يرتبط، فيما يبدو، بسكان كاليفورنيا والمهاجرين من بلدان البحر المتوسط وبلدان سواحل المحيط الأطلنطي أكثر من ارتباطه بالمنحدرين من المستعمرين في ولايات الغرب الأوسط. ولعل ذكرياتنا عن الطريقة التي يطهو بها ستوبوت في المسلسل الأمريكي «روهايد» أثرت في المشهد، ولكن توجد قطاعات كبيرة من وسط أمريكا ترضى بشريحة لحم بقري وبطاطس مقلية، وربما معها طبق صغير من السلاطة أو مشروب كوكاكولا أو جعة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن السواحل الحضرية هي قبلة الاهتمام الفعلي بالطهي، ونقطة البداية للطهي المعتمد على المزج بين طرق الطهي الآسيوية ومصدر الإلهام لأفكار الطهي الجديدة؛ وهي أيضا النقطة المحورية لإحداث نهضة في صناعة النبيذ الرفيع المستوى وتقدير قيمته.
وفي بريطانيا ينحصر الشغف بالطهي الراقي في مدينة لندن أساسا، أما الريف فينظر إليه على أنه الجهة الموردة للمنتجات التقليدية التي تتطلب رقي وأناقة السلع الأجنبية المستوردة، مثل التوابل والفواكه النادرة، حتى تتحول إلى شيء أرقى وأكثر تعقيدا. وينظر إلى أهل لندن على أنهم أقل حزما، وأنهم أقل تشبعا بالطباع الإنجليزية، أيا كان ما يعنيه ذلك . وتحمل كل هذه الروايات - شأنها شأن كل الافتراضات الأخرى - شيئا من الحقيقة بالإضافة إلى قدر كبير من الحسد والأفكار المغلوطة.
Page inconnue