La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
ومع أن الحبوب كانت هي الغذاء الأساسي، وكانت موضع تقدير واحترام في الكتابات التي تمتدح سخاء الطبيعة لمؤلفين مثل بلينوس («التاريخ الطبيعي»)، فإنها كانت تخضع لعملية تكرير متخصصة؛ فالقادرون ماديا على شراء أنواع الدقيق الأفضل لم يكن بوسعهم فقط اختيار نوع الحبوب الأفضل، بل بوسعهم أيضا اختيار نوع الدقيق الأفضل تكريرا وتصنيفا. ينبه المؤلفون لمخاطر طغيان الطابع التجاري (نناقشه بالتفصيل في الفصل السابع)، ويسجلون أيضا ظهور المخابز التجارية في مدينتي أثينا وروما. يشير أفلاطون في «محاورة جورجياس» إلى ثياريون الخباز وسارامبوي بائع الخمور وميثاكوس الطاهي، بصفتهم ظواهر جديدة في مدينة أثينا يبيعون سلعا يمكن صنعها في المنزل. كان أفلاطون - شأنه شأن الكثيرين في العصر الحديث - يرى أن الإنتاج المنزلي أفضل بكثير من الإنتاج التجاري. يسجل بلينوس (في كتابه «التاريخ الطبيعي» 18، 28) ظاهرة مشابهة في روما، وهي ظهور المخابز التجارية إبان الحروب المقدونية في عام 170 قبل الميلاد تقريبا. جاء ميثاكوس من صقلية وجاء الخبازون الرومان الجدد من مقدونيا، وكان الإنتاج التجاري في المدينتين - حسبما ذكرته هذه المصادر على الأقل - يحفزه النفوذ الأجنبي، سواء أكان ثقافة القصر الملكي في صقلية في القرن الخامس أم أسلوب الحياة الثري الذي أخذته روما عن مقدونيا. أصبح مجال المخابز التجارية في روما وإيطاليا نشاطا واسعا، يتضمن نقابات مهنية ومطاحن، وحظيت تلك المنشآت بوجود واضح في مدينة بومبي. وهكذا، نشأ مجال المخابز التجارية كخطوة تقدم تكنولوجية أفادت المستهلكين كما أفادت الذين تحرروا من كدح الطحن باستعمال المطاحن اليدوية. وللاطلاع على الجدل الدائر حول البساطة والتطور (أو الترف) في كتاب أفلاطون وكتب أخرى غيره، راجع الفصل السابع.
وما دمنا بصدد مناقشة بشأن الحبوب، فلا بد من مناقشة موجزة عن عادة احتساء الجعة. يشير بوسيدونيوس في كتاب أثينايوس إلى عادة احتساء الجعة بوصفها نشاطا «همجيا»، يوجد غالبا في بلدان مثل مصر وفرنسا. كان أفراد الطبقات الراقية من دوائر الحكم يحتسون النبيذ، سواء أكان مستوردا أم محليا. أما من لم يكن بوسعهم التشبه بالقوة العالمية التي تمثلها روما - أو لم يرغبوا في ذلك - فكانوا يحتسون الجعة المصنوعة من الشعير. وكما هي الحال بخصوص الحليب (الذي نناقشه في الفصل الخامس)، يوجد احتمال (ضعيف) أن أهالي المناطق الجبلية في اليونان وإيطاليا كانوا يشربون جعة محلية أو مشروبات مكافئة لها، ولم يكونوا ينقلون النبيذ من مناطق صناعة النبيذ.
وتأتي فقرات كاشفة فيما كتبه كل من استرابو وبوسيدونيوس؛ فهذه الدراسات الجغرافية - التي تتسم بتحيز عرقي واضح - تؤكد وجود عادة احتساء الجعة في جنوب فرنسا؛ فالجعة هي مشروب البسطاء، أما النبيذ المستورد فيتناوله الموسرون؛ إذ إنهم أكثر تأثرا بسلطان الثقافة الإغريقية الرومانية في بلدان البحر المتوسط ككل. وقد يعبر هذا الادعاء عن وجود عادة حقيقية، وبالمثل قد تكون عبارة عن تفسير أيديولوجي في ذهن المؤلف، لتكون في منزلة وسطى بين «بساطة» البريطانيين و«نقاء» الألمان؛ فهذان شعبان عند أطراف الإمبراطورية يعتقد أنهما أقل تأثرا بالفساد الموجود في الوسط، ولكنهما أيضا أبعد عن الحياة المتحضرة التي تشع من وسط الإمبراطورية. ولكن حين يوجه استرابو اهتمامه إلى جبال الألب الليغورية (4، 6، 2)، يصف سكان المناطق الجبلية الذين يعيشون على لحم الغنم والحليب و«مشروب مصنوع من الشعير»، ويعتمدون على الارتحال الموسمي للرعي بين الجبال والمراعي المجاورة للبحر، وحين يصلون إلى السوق في جنوة يقايضون الأغنام وأصوافها والعسل مقابل زيت الزيتون والنبيذ الإيطالي؛ لأن النبيذ الذي يصنعونه يتم إنتاجه بكميات قليلة ومن النوع المعالج بالراتينج. ونظرا لأن معظم أنواع النبيذ في العصور القديمة ربما كان يستخدم القار لإضافة نكهة لها، فمن المفترض أن استرابو يقصد أن النبيذ الليغوري كان منكها بهذه الطريقة إلى درجة ملحوظة؛ ففي العالم الذي عاش فيه استرابو، ربما كان الليغوريون يقطنون في بلاد الغال كما كانوا يقطنون في منطقة بروفانس أو ليون. ولكن لا بد أن نشير إلى أننا وجدنا هنا دليلا على احتساء مشروبات مصنوعة من الشعير في شبه الجزيرة الإيطالية في القرن الأول قبل الميلاد. يرى استرابو - بصفته كاتبا في روما - أن أهم عامل من عوامل الاختلاف الثقافي هو الاختلاف بين المدينة الواقعة في السهل وبين المناطق الجبلية، وليس الأهم هو فكرة فجة عن الهمجية باعتبارها تنتمي إلى ثقافة مختلفة؛ إذ يذكر استرابو في نهاية الفصل الذي كتبه عن الليغوريين أن البعض يشهدون على كونهم أحد الشعوب الإغريقية نظرا لاستخدامهم الدروع البرونزية. ولجارنسي (1999) رأي مختلف عن هذه الفقرة.
فالدليل الأثري الوحيد المتعلق بالجعة الذي أعرفه من البلدان الإغريقية يأتي من الحضارة المينوية في كريت (راجع الفصل الأول)، وهذا الدليل من شأنه أن يدعم الفرضية، فيما يبدو. كان الإغريق في العصر الكلاسيكي القديم يربطون الجعة بالشعوب الأخرى، ويغايرون ذلك باستهلاكهم للنبيذ. ويقدم أثينايوس الدليل الذي نتحدث عنه. وأشار الكاتبان المتخصصان في شئون التراث العرقي هيلانيكوس وهيكاتيوس إلى الجعة المصنوعة من الجاودار (في بريزا) ومن الشعير (في تراقيا)؛ ففي مصر يصنعون جعة الشعير لارتباط ذلك بأكل الخبز، ويصنع البايونيون (في مقدونيا) جعة الشعير وجعة الدخن. وكانت الجعة أيضا من الموضوعات التي استخدمها شعراء المسرح المأساوي. وصف إسخيلوس كيف عاقب إله النبيذ ديونيسوس ملك تراقيا ليكورغوس الذي ناهض الإله بحماقة و«شرب الجعة معتقة وأخذ يتفاخر، وادعى أن هذا كان من قبيل الشجاعة». أما سوفوكليس في مسرحيته «تريبتوليموس» فقد بين كيف أن البطل الشعبي أحضر التكنولوجيا الزراعية معه عبر آسيا الصغرى إلى اليونان ، ونجد أنه بالإضافة إلى الحبوب الأخرى المذكورة - مثل الأرز - يأتي أيضا ذكر «للجعة الوافدة من البر الرئيسي التي لسنا معتادين على شربها». ومن المحتمل أن يكون البر الرئيسي للبلاد هو آسيا الصغرى، ويبدو أن هذا الفارق الواضح بين الإغريق المعتادين على شرب النبيذ وجيرانهم الهمجيين المعتادين على شرب الجعة هو السمة الغالبة، ولكنه يبدأ في الانحسار في العصر الروماني؛ ففي ذلك الحين، كانت آسيا الصغرى بالكامل خاضعة لسيطرة الإمبراطورية. وأصبحت بقايا عادة شرب الجعة التي استمرت هناك جزءا من مزيج ثقافي مركب، مع أن الفكر الإغريقي التقليدي ربما كاد أن تكون له الغلبة. وأثبت ميتشيل (الذي سيأتي ذكره لاحقا) أن إنتاج زيت الزيتون في مدن آسيا الصغرى كان يعكس حضورا أقوى للثقافة الإغريقية الرومانية في أي مدينة. ويبدو أن عادة شرب الجعة قد استمرت في مصر؛ إذ ربما ساعدت خبرة المصريين في القمح والخمائر وفي إنتاج الخبز على ترسيخ تلك العادة واستمرارها. وفي الشرق الأدنى أيضا توجد أدلة على اتباع عادة شرب الجعة على مدى حقبة زمنية طويلة في بابل وفي الإمبراطورية الفارسية. بحث كورتيس (2001: 294 و370-371) في عادة شرب الجعة في اليونان، وفي الإمبراطورية الرومانية حيث كانت تحظى بانتشار أوسع، ويذكر أدلة من إسبانيا وبلاد الغال وألمانيا وفيندولاندا في بريطانيا. وتبرهن الأدلة - الأدبية والأثرية، فيما عدا أدلة الحضارة المينوية في كريت - بقوة على صناعة الجعة في البلدان الواقعة حول البر الرئيسي لليونان ولإيطاليا. وربما كانت أقرب خطوة اتخذها معظم الإغريق والإيطاليون نحو شرب الجعة هي إضافة دقيق الشعير ونثره على المشروبات التي يدخل فيها النبيذ. ويذكر مشروب «سايسيون» هذا بوصفه مادة منعشة في كتابات هوميروس وفي عدد من السياقات الدينية، من بينها الأسرار الشعائرية في إلفسينا.
كانت الحبوب هي الغذاء الأساسي، وعند الجمع بينها وبين البقوليات، فإنها كانت توفر معظم الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية والمواد المغذية. وتحظى البقوليات والمحاصيل الأدنى - شأنها شأن الحبوب - بمناقشة مستفيضة في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة»؛ وهي من المحاصيل المستخدمة بكثرة، ولكنها ذات مكانة متدنية ، ولها خواص طبية ولكن لها مساوئ أيضا، مثل التسبب في حدوث انتفاخ وغازات في البطن. والدقيق مصنوع من الحمص والفول الأخضر، ويستخدم دقيق الفول المشرفون على العبيد، ويأكل المصارعون الفول الأخضر لبناء أجسامهم. يقدم جارنسي (1998) مناقشة ممتازة لاستخدام الفول الأخضر مع عرض للمعتقدات المرتبطة به؛ فاستخداماته متنوعة ولكن الحماس لاستخدامه قد تضاءل. يروي جالينوس بدهشة واضحة أسلوب الحياة النباتي الذي يتبعه طالب طب في الإسكندرية (1، 25)، قائلا:
لمدة أربع سنوات، يوميا، كان يستخدم هذه المواد فقط كتوابل («أوبسا»)، وأقصد الحلبة والفول والبازلاء والترمس. وكان أحيانا يستخدم أيضا الزيوت القادمة من ممفيس والخضراوات وبعض الفواكه التي تؤكل دون طهي؛ إذ كان يتعمد عدم إشعال أي نار للطهي؛ ولذلك، ظل هذا الرجل طوال تلك السنوات متمتعا بصحة جيدة، وحافظ على حالته البدنية دون أن تقل مثقال ذرة عما كانت عليه في البداية. وكان يتناول هذه الأطعمة مع صلصة السمك؛ بمعنى أنه كان أحيانا يضيف الزيت وحده إليه، وكان أحيانا يضيف أيضا النبيذ، ومن حين لآخر كان يضيف الخل أيضا، ولكن في أحيان أخرى - كما هي الحال بخصوص الترمس - كان يأكله بالملح فقط. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
وكانت هذه الحمية النباتية الاختيارية قريبة الشبه بالنظام الغذائي للكثير من الفقراء، إن لم يكن للسواد الأعظم من الفقراء ممن لم يكن بوسعهم شراء اللحم، إلا في المناسبات الخاصة. ومن غير المدهش لأي اختصاصي تغذية في العصر الحديث أن الرجل ظل متمتعا بصحة جيدة لمدة أربع سنوات عاشها معتمدا على غذاء مكون من الحبوب والبقوليات والمنكهات، فتلك المواد مجتمعة كانت على الأرجح توفر الأحماض الأمينية الضرورية مثل الليسين لتكملة القيمة الغذائية للحبوب. ومع أن هذا النظام الغذائي مفيد، فمن المفترض أن تحل اللحوم محله في حالة توافر القدرة على شرائه، وذلك كما حدث في بريطانيا وبلدان أخرى منذ قرون حديثة. وعادة ما كانت تغفل المصادر القديمة ذكر الخضراوات، باستثناء الحالات التي كانت تعمد فيها إلى إثبات قصد معين أو تقديم دراسة شاملة، كالحال مع جالينوس وأثينايوس؛ ومن ثم، فإن كلمات أركستراتوس الساخرة ليست فريدة من نوعها (الشذرة 60 أولسون وسينس): «كل تلك الأطعمة اللذيذة الأخرى هي من علامات الفقر المدقع، مثل الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفف». ويفرد أثينايوس قسما طويلا للحديث عن العدس، ومعظمه مخصص لادعاءات الفلاسفة المخادعين.
كانت ثمة مجموعة كبيرة من الفواكه والخضراوات التي يتناولها الناس قديما، وتأتي مناقشة لهذه الفواكه والخضراوات في الجزء الثاني من كتاب أثينايوس، وفي الجزء الثاني من كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة»، ويناقشها دالبي (1996) بالتفصيل. توفر الفواكه - وبالتحديد المكسرات - البروتينات والمعادن الضرورية للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، وكانت مهمة في المحافظة على صحة عامة الناس ممن لم يكن بوسعهم تناول اللحوم والأسماك بصفة منتظمة. إلا أن الفواكه والخضراوات لم تكن تحظى بالمكانة التي تحظى بها اللحوم والأسماك، فيما عدا الكروم والعنب، وسنناقشها في الفصل السادس.
شكل 4-3: كان الكرنب البحري - المعروف علميا بالاسم «براسيكا مارينا» - نوعا بريا من الكرنب، وذلك بحسب الفكر القديم. وكان ثمة اعتقاد سائد مفاده أن عائلة الكرنب لها خواص طبية مع أن جالينوس لا يدرج القيمة الغذائية أو العصارات المفيدة ضمن هذه الخواص الطبية. وترد معلومات غذائية ممتازة عن الكرنب في ويلز (1998: 308-309). (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
كان ينظر إلى الأشجار والشجيرات بصفتها مصدر الطعام للإنسان قبل وصول الحبوب والاشتغال بالزراعة بسبب الشقاق مع الآلهة الذي تحكيه أسطورة بروميثيوس. يقدم أوفيد («مسخ الكائنات»، 1) ولوكريشوس («عن طبيعة الأشياء»، 5) أوصافا شعرية لحياة هؤلاء الذين اعتمدوا في كسب قوتهم على الصيد وجمع الثمار (راجع الفصل الأول). ورأينا فيما سبق آراء جالينوس عن المرضعات اللاتي كن يضطررن لتناول الأعشاب البرية في الربيع، والريفيين الذين كانوا يضطرون لتناول ثمار البلوط وغيرها من النباتات البرية. ومن وجهة نظر علم التغذية الحديثة، ربما يعتقد بأن مثل هذه النباتات توفر المعادن والبروتينات الضرورية؛ ولكن كان من غير المرجح أن توفر السعرات الحرارية، وهو الجانب الذي كثيرا ما يهتم به علم التغذية من وجهة نظر جالينوس (وإن لم يكن منصبا تماما عليه). ومن المدهش أن جالينوس لا يقدر زيت الزيتون أو اللوز (2، 27-29)، وهما طعامان أصبحت لهما الآن مكانتهما بسبب احتوائهما على دهون غير مشبعة، ولغير ذلك من الفوائد الصحية التي يوفرها كل منهما فيما يبدو (سالاريس 1991، وويلز 1998). وكانت النباتات المزروعة توفر مجموعة متنوعة من النكهات، ومن الأمثلة البارزة لذلك السلاطات والخضراوات الورقية والبصل والثوم. وكانت توفر أيضا مؤن الشتاء عند تجفيفها أو حفظها، وكانت الفواكه المجففة مثل التين والعنب والزبيب والخوخ توفر مصدرا للتحلية في حالة عدم وجود السكر. ويذكر جالينوس (2، 23) كعكات السفرجل المسلوق مع العسل التي كانت تشحن من سوريا إلى روما.
Page inconnue