La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
إن مناسبات تناول الطعام من المناسبات المميزة، وسأناقش حفلات الزفاف باستفاضة فيما يأتي؛ فتوقيت تناول الطعام ومكانه من العوامل المهمة للغاية. وشهدت أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد تغيرات كبيرة في عادات تناول الطعام بالتوازي مع التغير الاجتماعي والسياسي، وحين أصبحت المدن ذات الحكم الذاتي في البلدان الإغريقية واقعة تحت هيمنة المقدونيين وخلفاء الإسكندر الأكبر، أو خاضعة لحكمهم بالكامل؛ بدأ يتضح تأثير العادات المقدونية. وبمرور الزمن، لما أخذت الممالك التي حلت محل تلك المدن تعزز مكانتها ويتنافس بعضها مع بعض على السلطة والفخامة، بدأت صور تناول الطعام تتغير: ويخبرنا أثينايوس في مقدمته لهذه الفقرة أن هيبولوكوس ولينسيوس تبادلا مجموعة من الرسائل يصفان فيها المآدب التي حضرها خلفاء الإسكندر الأكبر، وفي إحدى الرسائل - وهي مفقودة الآن - وصف لينسيوس الاحتفال بعيد أفروديت في أثينا بحضور الملك أنتيجونوس (من النبلاء المقدونيين)، بينما كان الملك بطليموس (ربما بطليموس الثاني: راجع دالبي 2000: 374) يحضر مأدبة أيضا في أثينا. ووصفت رسالة أخرى مأدبة عشاء للحاكم المقدوني لأثينا ديميتريوس بوليوركيتيس (أو «مقتحم المدن»)، أقامتها عشيقته المحظية لاميا (للاطلاع على تفاصيل هذه المأدبة - التي ربما أقيمت في ماخور - راجع دالبي في الموضع المشار إليه آنفا). وكان خلفاء الإسكندر الأكبر يبسطون نفوذهم على منطقة شرق البحر المتوسط بالمعنى السياسي، ولكنهم بمعنى ثقافي أكبر عززوا تلك السلطة بالسفر إلى أثينا لتناول الطعام أحيانا في أحد الأعياد، وأحيانا في مناسبة غير دينية. وهذا المزج بين السلطة المقدونية وتناول الطعام في أجواء احتفالية في المدينة الإغريقية ذات الحكم الذاتي يشبه عيد البطلميا - الذي أنشأه بطليموس الثاني وأرسينوي في الإسكندرية تكريما لبطليموس الأول - ولكنه كان مأخوذا جزئيا من نموذج احتفالات ديونيسيا التي كانت تقام في المدن ذات الحكم الذاتي مثل أثينا (راجع الفصل الثالث). والبطلميا من الأحداث التي سجلها أثينايوس أيضا، ونناقش اهتمامه بهذه الأحداث فيما يأتي. (1) القرن السابق لمأدبة كارانيوس
تأتي عادات تناول الطعام المتأثرة بأكثر من بلد، التي اتبعها خلفاء الإسكندر الأكبر، في أواخر قرن يبدو أنه مهم للغاية في تاريخ عادات تناول الطعام القديمة. ففي أواخر القرن السابق (405 قبل الميلاد) وضع أريستوفان على لسان ديونيسوس كلاما يعتمد على التلاعب بالألفاظ في مسرحيته «الضفادع» (85)، يساوي فيه بين تناول الطعام مع المقدونيين والتصور المثالي لتناول الطعام مع الأتقياء ممن فارقوا الحياة. ويفصح عدد من المآدب الفاخرة (من غير المعروف إن كانت من وحي الخيال أم لا) التي كانت تقدم في أثينا خلال هذه الفترة؛ عن التأثيرات الوافدة من مقدونيا وتراقيا. يحكي وصف هزلي يرد في مسرحية «بروتيسيلاوس» (الشذرة 41) من تأليف أناكساندريديس عن مأدبة أثينية تتفوق على وليمة زفاف باذخة أقيمت للأثيني إفيكراتيس، وأقامها أبو العروس، وهو كوتيس ملك تراقيا. وتؤكد نصوص أخرى أن الصفوة في أثينا كانت تولي وجهها شمالا عند تقديم أصناف من الأطعمة في المآدب بغرض التنافس. وفيما يبدو، فقد أثر مواطنو تراقيا بأدوات المائدة التي اشتهروا بها، والمقدونيون بمنازلهم الفخمة وعاداتهم المتعلقة بالقنص وأكل اللحوم؛ في جيرانهم الجنوبيين. ويتضح في الأدب الأثيني مدى التعارض بين أيديولوجية قائمة على الفقر النسبي والبساطة، وبين الرغبة في التنافس لدى الأغنياء لتقليد عادات مقدونيا بوصفها قوة ناشئة. ويصف نيسيماكوس - وهو شاعر هزلي أثيني آخر من القرن الرابع - وليمة فخمة في مسرحيته «مربي الخيول»، يظهر فيها أحد أفراد سلاح الفرسان في أثينا وهو يتناول طعاما أبعد ما يكون عن البساطة، في قاعات سقفها مصنوع من خشب الأرز تذكر بقصور مقدونيا. ولدينا من الفترة نفسها أيضا قصيدة «العشاء الأتيكي» من تأليف ماترو من بيتان، وهي محاكاة ملحمية ساخرة تصف في قالب شعري مأدبة فاخرة في أثينا. وبدأت هذه التباشير الأولى في الكتابة تظهر بوضوح أكثر بكثير في أواخر القرن، حين بسط المقدونيون سيطرتهم على البلدان الإغريقية، وأخذت المآدب تقام في أثينا من أجلهم، بحسب الوصف الوارد في رسائل هيبولوكوس.
وكان للتطورات التي شهدتها صقلية في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد تأثيرها كذلك؛ ففي صقلية أيضا كانت هناك قصور جمعت بين الأراضي الزراعية الخصبة وآكلي الطعام ذوي الحس المميز ممن يأكلون باستمتاع. وذكر ساتيروس في كتابه «حيوات» (= أثينايوس 12، 541) أن الطاغية السيراقوسي ديونيسوس الثاني كانت لديه مجموعة من الغرف في قصره تحتوي على ثلاثين أريكة، وبالإضافة إلى هذه السعة المكانية الهائلة، كان ثمة اعتقاد شائع بين الناس أن الطاغية يحظى بقدر لا محدود من المتع (1، 17-23). ويتحدث زينوفون في حواره المعنون ب «هاييرو» - الذي سمي على اسم الطاغية السيراقوسي الذي حكم في القرن الخامس قبل الميلاد - عن الذائقة المتخمة للطاغية بعد أن سئم الأطعمة المتقنة الصنع والنكهات الحريفة واللاذعة، وسئم سهولة توافر الموائد الزاخرة بألوان الطعام، على النقيض من المواطن العادي الذي لا يحصل على الأكلات اللذيذة المميزة إلا في الأعياد. وجاءت من صقلية أوائل كتب للطهي باللغة الإغريقية - وهي الكتب التي ألفها ميثاكوس وأركستراتوس - وجاءت منها كذلك ثقافة كانت تروج للمتعة. يقدم أركستراتوس وصفات محضرة بنكهات حريفة ولاذعة («أوكسيا» و«دريميا»، في الشذرات 9 و23 و24 و37 و38، أولسون وسينس 2000)، تشبه الوصفات التي وردت في كتاب زينوفون «هاييرو». ويبدو أن هذه المتع قد صدرت إلى البر الرئيسي لليونان؛ حيث يظهر الطهاة مثلا (وبعضهم من صقلية) في أثينا، حسبما يذكر كل من أفلاطون («الجمهورية» 373، 4)، والأطباء أتباع مدرسة أبقراط («الحمية 1»)، وزينوفون («التذكارات» 2، 1، 30)، وعدد من المسرحيات الكوميدية الأتيكية (راجع ويلكنز 2000، الفصل السابع). ولم يكن هؤلاء الطهاة الأثينيون ملتحقين بالعمل في القصور، بل كانوا يعرضون خدماتهم في السوق أو في أماكن أخرى؛ ومن ثم، كان بوسع المواطنين الأغنياء تقديم طعام فاخر يميزهم عن غيرهم من أفراد الطبقة الراقية، ويوفر عنصر التباهي القائم على المنافسة. وكان بوسع هؤلاء المواطنين تحمل تكلفة تشغيل موظفين إضافيين بالإضافة إلى العبيد والخدم المكلفين عادة بإعداد الطعام في منازلهم. ويبدو أن عادة استئجار الطهاة قد ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، فضلا عن غير ذلك من سمات الترف الواردة في الفصل السابع.
يحمل هؤلاء الطهاة في جعبتهم الكثير من الحكايات التي يحكونها بأنفسهم في المسرحيات الكوميدية الإغريقية، وهم من الشخصيات النمطية مثل المحظية والمتطفل. وهم يعبرون على الأرجح عن واقع اجتماعي إلى حد ما، ولكن غالبا ما يستخدمهم الشعراء الهزليون للجمع بين حرارة المطبخ وبلاغة وفخامة غرفة الطعام؛ إذ يظهر الطاهي وهو يتحدث عدة مرات عن مهاراته الممتازة، على نحو أشبه بما يفعله طاه في برنامج تليفزيوني أو صاحب مطعم في العصر الحديث؛ فلديهم التوليفة نفسها التي تجمع بين مهارات الإعداد والطهي وبين الادعاءات الرنانة والمال الوفير. ولكن إذا تأملنا زبائن هؤلاء الطهاة المستأجرين، نجد أنهم يختارون تشغيل خبراء في الطهي بدلا من عبيدهم هم، ويختارون التباهي بقدرتهم على الحصول على صور الطهي الجديدة وربما الأجنبية. وأركستراتوس نموذج لافت للغاية بوصفه نتاجا لهذا القرن، الذي تأتي في نهايته الولائم التي أقامها الملوك ممن جاءوا بعد الإسكندر الأكبر كما ناقشنا فيما سبق، وكذلك هو من استهل كل الجوانب الأخرى للسلطة الملكية في الحقبة الهلنستية.
كان أركستراتوس من جيلا في صقلية، وألف قصيدة من الشعر الملحمي اسمها «هيدوباثيا» أو («حياة الترف»)؛ وهي قصيدة هزلية ولكنها تستحق مكانة مميزة أيضا، وتتحدث إلى قارئ من المتصور أنه يسافر في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط بحثا عن أفضل أنواع الأسماك وغيرها من الأطعمة، ويرفض الأطعمة غير المرتفعة الثمن بفظاظة؛ إذ يميز بين متناولي الطعام المفضلين لديه وبين من يتناولون أطباقا جانبية من الخضراوات على اختلاف أنواعها (الشذرة 9 أولسون وسينس)، ويرفض «كل أصناف الحلوى الأخرى التي تدل على الفقر المدقع، وكذلك الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفف» (الشذرة 60، 13-15 أولسون وسينس، ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز).
يعد أركستراتوس جزءا من هذا التوسع الواضح في عادات تناول الطعام الراقية في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم تكن قصيدته عن الطهي والسفر هي الأولى من نوعها؛ إذ كان ثمة صقلي آخر - هو ميثاكوس - قد ألف من قبله كتاب طهي نثرا. وظهر على الأرجح - كما رأينا - المزيد من عادات تناول الطعام القائمة على التفاخر في البلدان الإغريقية في مدن جنوبي إيطاليا ومدن صقلية؛ حيث كانت قصور الحكام المستبدين توفر الظروف الضرورية لإنتاج الكتب التي تتناول الطهي. ويوضح جودي (1982) أن تلك الظروف تتضمن وجود فائض زراعي، ومجموعة من الآكلين يتصفون بحسن التمييز وقد يفضلون طريقة تحضير معينة على أخرى، وأخيرا الكتابة. وفي الغالب، فإن الظرف الأخير هو الذي أدى إلى ظهور كتب الطهي في عام 400 قبل الميلاد تقريبا، وليس في القرن السادس حين كانت المدن الغنية مثل سيباريس وكروتون في فترة ازدهار. ولم يؤلف أحد الأبحاث المصاغة نثرا عن أي موضوع قبل منتصف القرن الخامس، وجاءت في صدارة تلك الأبحاث الأبحاث الطبية والأعمال الفلسفية العلمية من تأليف أبقراط. وبالإضافة إلى النصوص، كان هؤلاء الطهاة المحترفون مستعدين للعمل بالأجر. ولم تكن توجد مطاعم في العالم القديم، وكان الناس عادة يتناوبون تناول الطعام بعضهم في بيوت بعض، على نحو أشبه بالمجتمعات الأرستقراطية في أوروبا قبل أوائل القرن التاسع عشر عند بدء ظهور المطاعم . وفي ظل عدم وجود مطاعم، كان الموسرون في العصور القديمة يستعينون بطباخ يصبح مكلفا بشراء الطعام وتحضيره وتقديمه، وذلك بمساعدة العبيد المقيمين في منزل الأسرة أو مساعديه. ويظهر مصطلح «هيدوباثيا» أو «تجربة المتعة» أو «حياة الترف» - وهو في الواقع عنوان قصيدة أركستراتوس - لأول مرة في أبحاث زينوفون ويتعلق بشراء الأطعمة الراقية وغير ذلك من الأنشطة الممتعة. ثم يلاحظ زيادة الاهتمام أيضا بالمخاطر الاجتماعية «للترف» بدءا من أواخر القرن الخامس فصاعدا، خاصة في نصوص مؤرخي القرن الرابع أمثال ثيوبومبوس وطيمايوس؛ لذا كانت البلدان الإغريقية في القرن الرابع مستعدة لتدفق الثراء المقدوني حين أخذ فيليب الثاني والإسكندر الأكبر يبسطان سيطرتهما على المدن الإغريقية. كانت المآدب المقدونية توصف أحيانا بأنها متأثرة بالطابع العسكري؛ فتصف الشذرة (7) من مسرحية كوميدية أثينية - وهي مسرحية «فيليب» من تأليف نيسيماكوس (تتحدث عن فيليب الثاني ملك مقدونيا على ما يبدو) - مأدبة مقدونية تشهد خلطا بين الرماح والأسلحة، وبين أصناف الطعام وقطع الأثاث. ومن الجائز أيضا أن أركستراتوس حين نصح بأن يقتصر حاضرو المأدبة على عدد قليل لتجنب ما يسميه جلوس مجموعة هائلة من الجنود المرتزقة إلى المائدة (الشذرة 4، أولسون وسينس)، كان يقصد المقدونيين:
لا بد أن يتناول الجميع الطعام على مائدة واحدة مجهزة لمأدبة أنيقة. وليكن العدد الكلي للحاضرين ثلاثة أو أربعة، أو لا يزيد بأي حال عن خمسة، أما إذا تجاوز العدد ذلك فستصبح لديك مجموعة من جنود المرتزقة الجشعين.
ولكن كان الجنود المرتزقة من السمات السائدة في المناطق التي تفتقر إلى الاستقرار في البلدان الإغريقية بصفة عامة في القرن الرابع قبل الميلاد.
يولي أركستراتوس اهتماما بالأسماك؛ فهو ينتمي إلى فئة صفوة الآكلين ممن يفضلون النظام الغذائي الذي يحتوي على نسبة بروتينات مرتفعة، ولكنها صفوة أنيقة تمتدح الأناقة البسيطة التي تميز الخبز وأصناف المأكولات المصنوعة من الشعير وأفضل أنواع الأسماك المضافة إليها نكهات خفيفة. وهو يتجاهل الطهاة الصقليين (وهم الطهاة الذين ربطت بينهم وبين قصور الطغاة) الذين كانوا يضيفون نكهات الجبن إلى الأسماك ؛ ومن ثم، كانت هناك درجات من عادات تناول الطعام الجيدة، كما هي الحال في الكثير من أساليب الطهي الحديثة، وبعض الدرجات كانت تركز على التفاخر بالثروة، مثل كارانيوس؛ وكانت تركز درجات أخرى على النكهات المركبة والغنية (وهي النكهات التي انتقدها أركستراتوس)؛ بينما كانت تسعى درجات أخرى إلى الأناقة والبساطة (للاستزادة، راجع ويلكنز وهيل 1994: 21-24، أولسون وسينس 2000).
تعد البساطة، بصفتها فئة فرعية من المآدب الأنيقة، من السمات المهمة في عادات تناول الطعام الرسمية في الكثير من العصور، بما في ذلك العصر الحالي، كما يناقش شون هيل في مقدمته؛ فالبساطة تتغلغل أيضا في الكثير من الكتابات الأدبية التي تتناول الطعام. كما سنرى في الفصل التاسع، يصور أريستوفان أسلوب الحياة الريفية على أنه مثالي ولم يتلوث بمال المدينة الذي يتسبب في الفساد، في حين أننا نجد أن الشعر الوعظي من تأليف هوراس وجوفينال وأوفيد وكذلك الشاعر الذي كان ينسب شعره إلى فيرجيل؛ يصرح بأن عادات تناول الطعام الراقية موجودة لدى الريفيين من الرومان. (2) القرون التي أعقبت كارانيوس
Page inconnue