La nourriture dans l'ancien monde
الطعام في العالم القديم
Genres
فما الذي نستنتجه من هذه القصص المختلفة؟ من ناحية جوهرية، كان الطعام يقع في صميم الكثير من مظاهر التبادل والاختلاط الثقافي، وكان ما هو إغريقي يتميز عما هو أجنبي من حيث الطعام. وحددت الفلسفة أهمية الطعام، وكذلك قيوده ومحاذيره - التي كان لا بد من معرفتها - حتى لا تعرض الأخلاق للخطر. وميز أفلاطون تمييزا مهما بين الطعام الممتع (الذي يعده الطاهي) والطعام المفيد. ويتغلغل هذا الخطر الأخلاقي في ثنايا الفكر القديم وصولا إلى فرفريوس ودعاة التقشف الذين جاءوا بعده؛ ويتغلغل في الطب أيضا، على الأقل كما لوحظ في فكر جالينوس. ولكن الطب كان ينادي بآراء مختلفة عن الطعام والطهي. كان الطهي جزءا من العملية المفيدة التي يمر بها تحضير الطعام للهضم، الذي هو في حد ذاته شكل من أشكال الطهي. وفي كتاب «فن الطب» من تأليف أبقراط، يأتي الطهي كجزء من مراحل التمدن والتحضر، ويناسب النموذج الذي تحدث عنه هسيود بصفته إجراء مهما كان يميز البشر عن الحيوانات (مع أن فكر أبقراط أكثر تقدما من حيث تطبيقه للفكرة مقارنة بهسيود الذي تغلب عليه الكآبة). وفي مواضع أخرى من كتابات أبقراط، نجد أن قواعد النظم الغذائية الواردة في بحث «الحمية 2» ناشئة من النظريات الأولية القائمة على النار والماء في الجزء الأول. وكل شيء مشتق من النار والماء؛ الكون والعالم والبشر والحيوانات والنباتات.
سنجد أن هذه التفسيرات الإيجابية والسلبية واضحة في كل ما سنتناوله في الفصول الآتية. تؤثر هذه الأنماط الفكرية تأثيرا مهما على الأنماط الاجتماعية والدينية التي نناقشها في الفصلين الثاني والثالث، وتؤثر أيضا على الكثير من أشكال التعبير الأدبي؛ مما كان له أكبر الأثر على ردود الفعل حيال طقوس تناول الطعام في العالم القديم، وذلك في أعمال من تأليف جوفينال وبيترونيوس وسيوتونيوس .
مقدمة الفصل الثاني
تسبب الفصل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع في ظهور فروق من حيث نوعية النظام الغذائي، وإن لم يكن بالضرورة من حيث الطعم؛ فكان من المفترض أن يكون القاسم المشترك هو أسلوب الطهي وتوافر المكونات، وكان بوسع الفقراء في الريف تناول نظام غذائي يعتمد على النشويات، مثل العصيدة بأنواعها والخبز غير المختمر، وكانوا يضيفون إليها إضافات من الأعشاب والسلاطات حتى يصبح طعمها مستساغا أكثر. ومن الصعب أن نصدق أنهم في الفترات التي ساد فيها الفقر لم يشربوا الحليب الطازج أو يصنعوا الزبد، أيا كان الازدراء الذي كان يكنه الناس لتلك الأطعمة. وكان الفقراء في الحضر - في روما على الأقل - يعيشون في مساكن دون وسائل للطهي، ولا بد أنهم كانوا يضطرون لاستعمال أطعمة نظيرة للأطعمة السريعة يشترونها من الباعة المتجولين، وكانت تلك الأطعمة تشكل قسما كبيرا من غذائهم. ومن المفترض أن البروتين الحيواني المتوافر في الأسماك أو الطيور كان من الأكلات المميزة التي يتناولها الناس على فترات متباعدة، ولم يكن من الأغذية الأساسية المألوفة. وكان هذا نظاما غذائيا يعتمد على الزراعة وتربية حيوانات المزارع.
وكانت الخيارات المفضلة في أساليب الطهي شأنا يعتمد على الذوق والنزعة العملية لدى كل من الأغنياء والفقراء على حد سواء؛ فأنواع الخبز غير المختمر مثل الخبز الإغريقي مناسبة لتغميس أنواع العصيدة التي تشبه سلاطة الحمص أكثر من الخبز المختمر. وكان من المفترض أن زيت الزيتون وصلصة الجاروم والنبيذ كانت من الأطعمة الشائعة في معظم الأنظمة الغذائية. وليس من الجديد أن ينظر الأغنياء إلى الطعام باعتباره وسيلة للتفاخر الاجتماعي، بدلا من أن تقتصر فائدته لديهم على المتعة أو حتى التغذية؛ فلهذه الظاهرة أصل تاريخي يمتد على مدى قرون، ومن الممكن مضاهاة سلوكيات الإسراف في الطعام في عصرنا الحالي بالولائم الملكية في العصور الوسطى التي كانت تقدم فيها طيور الإوز العراقي والطاووس، كما يمكن مضاهاتها على نفس النحو بكئوس مشروب المارتيني التي كان يفضلها جيمس بوند - وكان يطلب من الساقي مزجها وليس رجها - باعتبارها مؤشرات غير دقيقة للرقي أو الثروة أو السلطة. فنحن غالبا ما نشترك في افتراضات شائعة ويقينية بخصوص استحسان المكونات النادرة أو شديدة الندرة، وربما نكتشف أن من قد ينتابهم حاليا الاشمئزاز من فكرة تناول بيض السمك والنبيذ الفوار، سيتحدثون بتبجيل عن الكافيار والشامبانيا حين يربحون جائزة اليانصيب. ونبات الكمأة الأبيض ذو الرائحة النتنة الموجود في عصرنا الحالي يشبه نبات السيلفيوم الذي كان موجودا في روما، وهو ليس نادرا ومرتفع الثمن فحسب، بل ينظر إليه أيضا على أنه من مؤشرات الذوق الرفيع وحسن الاختيار.
وبالطبع، يوجد أكثر من مناسبة واحدة لمناقشتها حتى فيما بين الأغنياء؛ فقد يرى بعض فئات من المجتمع أن أي سلوك يعبر عن الإسراف هو سلوك سوقي، وقطعا مرت فترات من التاريخ كان ينظر إلى الإسراف في الطعام على أنه سلوك ينم عن الضعف، بل ينظر إليه أيضا في عصور الحروب أو الأزمات على أنه ينم عن التجرد من مشاعر الوطنية. كان من الفظاظة في العصر الفيكتوري أن يذكر المرء نوع الطعام الذي يأكله في وقت الطعام؛ فالأهم من ذلك بكثير هو استخدام أدوات المائدة المناسبة وفهم أنواع الخمور التي يفضل تناولها مع أطباق معينة، فكل ذلك من علامات الإلمام بخصائص الطبقة الاجتماعية وقواعد السلوك التي كانت تجمع بين الصفوة الحاكمة.
وهذه جوانب من الفكرة نفسها، وهي فكرة القيم المشتركة التي تجمع بين من يتناولون الطعام معا؛ فالتجاهل الشديد لما أمامك من أطباق والاهتمام المتباهي بالفروق في طعم وأصل الطعام الذي ستأكله، كلاهما موقف يقصد به إيصال رسالة. تتعلق الرسالة في الموقف الأول بالجدية أو التقوى أو الرجولة، أما في الموقف الثاني فتتعلق بالطموحات الفنية والحسية. فهو موقف أشبه ما يكون بالمقارنة بين غاندي والذواقة الفرنسي بريا سافاران، ولكنه ليس موقفا يقارن بين الوليمة والمجاعة؛ إذ إن كلا منهما يفترض وجود طعام وفير أو على الأقل كاف، ويفترض وجود المال اللازم لشرائه. فحالة الإخاء التي تسود بين من يتناولون الطعام معا هي بيت القصيد وليس قائمة الأطباق المقدمة.
وكان أركستراتوس - الذي عرف عنه أنه متذوق للجمال - يؤيد معالجة المكونات الفاخرة المنتقاة بعناية معالجة محدودة، وتكاد تكون متقشفة بدلا من الكميات الوفيرة المنمقة، بينما ينم عشاء تريمالكيو عن ذوق يفضل الإسراف الذي يكاد يشبه إسراف هوليوود في قمة مجدها، من حيث التماس المزيد لإثارة الحسد بدلا من الإعجاب. ومن الممكن أن نفترض أن الموقفين كليهما يعبران عن الطموح باعتبارهما وجهتي نظر عن الطعام، وليس باعتبارهما تعبيرا خالصا عن عصرهما.
الفصل الثاني
الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
Page inconnue