Les Naturalismes en Théologie: Du Passé au Futur
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Genres
فلم تكن الفلسفة في النهاية إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، إن الفلسفة الإسلامية أو الحكمة تمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها. وكانت الفلسفة أو الحكمة أكثر اتصالا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي المباشر الصريح، إن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به، فتميزت من الكلام بأنها؛ أولا: انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري، لا من القضايا المثارة في المجتمع/النص بصورة مباشرة. ثانيا: لم تتخذ عن عقائد الدين أو من النص ذاته مسلمة أولية أو قاعدة مباشرة للبحث.
وبصدد فضل علم الكلام في وصول العقل الإسلامي إلى بر الحكمة أو دائرة الفلسفة الخالصة، يتبوأ المعتزلة المنزلة الأعلى والفضل الأعم؛ فلم يكن علم الكلام المعتزلي بالذات إلا فلسفة صريحة، بل وفلسفة ناضجة. ومن حيث هم أهل العدل والتوحيد كانوا فلاسفة الحرية والعقل معا في آن واحد، ليس فقط بسبب ما أشرت إليه من قولهم بإرادة الحتم وإرادة التفويض، فأمرهم أعمق من ذلك.
إذ كان واضحا دائما أن الحرية الإنسانية - أو الاختيار بمصطلحاتهم - هو المضمون المحوري لمفهوم العدل المعتزلي، لكن لم يتضح أن الحرية مضمون محوري للفلسفة بأسرها إلا منذ القرن السابع عشر وما تلاه؛ حين استقام نجيب العقل الأثير - أي نسق العلم الحديث - عملاقا واعدا محصنا بتلك الحتمية الإبستمولوجية الصارمة، يلقيها على الوجود بأسره أنطولوجيا لتنتفي حرية الإنسان، فكان التناقص بين العلم بحتميته والإنسان بحريته محورا دارت بين رحاه الفلسفة الأوروبية الحديثة، أصابها بما أسميته شيزوفرنيا أو انفصاما حادا بين عالمين أحدهما للحتمية العلمية والآخر للحرية الإنسانية.
فنجد العقل والمادة عند ديكارت، النومينا والفينومينا (كانط)، الإرادة والتمثل (شوبنهاور)، الأنا واللا أنا (فشته)، العقلي والواقعي (هيجل)، الفكر والوجود، الروح والطبيعة، العقل والعاطفة، النسبي والمطلق، الآلي والغائي ... بعضا من ثنائيات جمة دارت بين رحاها الفلسفة الحديثة، كلها معا تجمعها بوتقة واحدة؛ الثنائية الأم والأصل والأساس: الحتمية العلمية والحرية الإنسانية.
44
إنه خيار الفلسفة الأوروبية العسير: إما فلسفة العقل وإما فلسفة الحرية، والذي تشكلت تحت وطأته توتراتها وتطوراتها. وقد بلغت الذروة في التنويرية. وكرد فعل للتنويرية وإيمانها المفرط بالعقل والعلم، نشأت الرومانتيكية لترفع لواء الحرية، وتمخضت عن البرجسونية والوجودية، ورد الفعل على الوجودية بالبنيوية ... وليس يصعب إدراك أن الحتمية العلمية التي هي إبستمولوجية وأنطولوجية معا، كانت امتدادا ممسوخا وظلا باهتا لمفهومي العلم الإلهي الشامل (إبستمولوجيا)، والقدرة الإلهية الشاملة (أنطولوجيا)
45
في إثارتهما لمشكلة الحرية الإنسانية، لا سيما مع الكالفينية.
هذا عن العدل (= الحرية)، أما عن التوحيد (= العقل) فقد أدى مع المعتزلة إلى نفي الصفات، وبالتالي التنزيه المطلق الذي استند على مبادئ فلسفية مجردة، حتى تأتي بعض مناقشاتهم أحيانا نسقا مصمتا من المفاهيم الفلسفية، وكلها في إطار العقل والحرية، بلا شيزوفرنيا أو انفصام كشأن الفلسفة الأوروبية. فماذا ننتظر أكثر من هذا لنعدهم فلاسفة روادا وآباء شرعيين للفلسفة الإسلامية؟! بل هم أهلوها الأصلاء.
لذا يسهب ابن خلدون - على الرغم من أشعريته - في إيضاح أن المعتزلة «هم أصحاب الفضل في وضع العلاقة بين علم الكلام والفلسفة موضع الأمر الواقع التاريخي.»
Page inconnue