Les Naturalismes en Théologie: Du Passé au Futur
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Genres
إن هذا الإسراف لا يلتفت إلى جدلية العلاقة بين الفكر والواقع؛ فالواقع الذي بدأ في التفكك والتردي منذ العصر العباسي الثاني كان يحمل في ذاته عوامل النكوص، ربما من حيث كان يحمل عوامل سؤدد الأشعرية . لعل الأشاعرة مكرسوه، لكنهم بالتأكيد ليسوا خالقيه أو صانعيه، بل إنهم في حقيقة الأمر أيديولوجيون مرتبطون بالواقع أكثر من المعتزلة، أو هم أكثر تعبيرا عن الموقف العام للجماهير، ولا نستطيع إنكار أنهم استقطبوا الجماهير لوقوفهم موقفا وسطا فض النزاع الضارب بين غلاة النقليين ويمثلهم الحنابلة وغلاة العقليين ويمثلهم المعتزلة.
إن هي إلا صفحات قلائل وأقوم بدوري في إحقاق حق المعتزلة وتقدير مواطن تألقهم وعطائهم، ولا يمنع هذا من رفض المنطق الانفعالي والحكم الحدي بالصواب والخطأ ... الأبيض والأسود ... نعم ولا، ليكون الأشاعرة هم كل الشر يحملون وحدهم مسئولية كل تخلف، ويكون المعتزلة هم كل الخير حاملون المفاتيح الذاتية الصنع لفراديس التقدم السبع المعلقة، فلا يدانيهم الخطأ ولا الملام من بين أيديهم ولا من خلفهم، وكل ما يعوزنا مد طريقهم إلى يومنا هذا، وما سيتلوه بلا حاجة للإضافة أو الإبداع، ناهيك عن القطع المعرفي.
لقد حرصت على الانطلاق من مواطن لقائهم مع الأشاعرة، وعلى أساسها، ويكفي تلاقيهم في الجوهر الفرد الذي هو صلب الطبيعيات الكلامية، والذي كان الأداة الفعالة لتدمير الطبيعة، وسوف أعود مجددا وختاما لمواطن اللقاء تلك، ولا يمنع هذا من الإقرار قبلا بأنهم - في مقابل الأشاعرة - أضمروا اعتقادا بقوانين طبيعية تجري وفقها الأحداث، وكانوا بحق - كما بينت في بحث سابق لي - من حملة لواء الحتمية في العصور الوسطى.
34
قلة من المعتزلة كأبي بكر الأصم أنكرت وجود الأعراض، وقال معظمهم: إن الله لم يخلق إلا الجواهر، ولم يخلق الأعراض إلا بالتوليد؛ أي إنها فعل ينشأ عن الفعل المخلوق (= الجوهر). ما يحل في الجواهر من أعراض من فعل الجسم؛ لذلك فالطبيعة فاعلة بذاتها وأفعالها خاضعة لقانون شامل، لحتمية علمية، ولا ينقض هذا الإرادة الإلهية إن لم يؤكدها؛ لأن «أعراض الأجسام وطبائعها حاصلة بإيجاب خلق الله لها.»
35
ويبلغ اعتقادهم بالعلية وقانونية الطبيعة ذروته في قول بعضهم بمذهب الطبائع، وكما يقول الخياط في كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد»:
أصحاب الطبائع هم القائلون بطبيعة ثابتة لكل شيء يصدر بمقتضاها، فلكل مطبوع جنس واحد من الأفعال؛ النار لا يكون منها إلا التسخين، والثلج لا يكون منه إلا التبريد، وإن من تكون منه الأشياء المختلفة هو المختار لأفعاله لا المطبوع عليها.
36
هكذا لم يجعل المعتزلة من قانون الطبيعة نقضا لفكرة الحرية كما فعل فلاسفة أوروبا، بل وضع المعتزلة فرقا جوهريا بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان؛ الأول حتمي آلي «إرادة حتم»، والثاني يدخل فيه عنصر التمكين والاختيار الإنساني، أو هو إرادة تفويض.
Page inconnue