La nature et au-delà de la nature : la matière, la vie, Dieu
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Genres
فوق الحياة الحاسة الحياة الناطقة تزيد على قواها المذكورة آنفا قوتين اثنتين: أولاهما قوة إدراكية هي العقل، والثانية قوة نزوعية هي الإرادة. وقد أثبتنا فرقا جوهريا بين المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، مع الحرص على إبقاء الصلة بين العقل والحس بإبقاء الصلة بين النفس والجسم، فسلكنا طريقا وسطا بين المذهب الحسي الذي يرد المعرفة العقلية إلى معرفة حسية مركبة، وبين المذهب التصوري الذي يجعل من المعرفة بنوعيها مجرد تصور عديم العلاقة بالتجربة الخارجية. وبينا في كتاب «العقل والوجود» قيمة أفعال العقل، من تصور ساذج وحكم وقياس واستقراء، فلن نصنع عنا إلا بيان ماهية العقل بإشارات إلى أفعاله، وإشارات إلى آثاره أو مظاهره، وهي الأفعال، والآثار التي يمتاز بها الإنسان على سائر أنواع الحيوان، من علم أخلاق ودين وفن ولغة وضحك.
عند الحسين أن الفوارق بين الإنسان والحيوان الأعجم فوارق بالدرجة فقط لا بالماهية، فيفسرون الأفعال العقلية بالصور الخيالية، ويظنون أن للحيوان عقلا؛ ولا سيما أنهم يأخذون لفظ العقل بمعنى واسع يشمل مطلق المعرفة الباطنة، بل الظاهرة أيضا. والواجب أن ندع له المعنى المعروف منذ أفلاطون وأرسطو المحدود إلى المعارف العليا الخاصة بالإنسان، وهي أولا معرفة الكليات، أي المعاني المجردة عن المادة، وخصوصا تلك التي تعود إلى الرياضيات، وإلى ما بعد الطبيعة، وهي أساس المعرفة العقلية إجمالا، والشاهد الأوضح على إدراك «النسبة» ذلك الإدراك المقوم لجميع أفعال العقل، على ما سوف نذكره الآن. وليست العجماوات مدركة للكليات؛ وليست مدركة للنسب المجردة كالعلية والغائية؛ وجهلها للنسب نتيجة عجزها عن تكوين المعاني المجردة. أجل كثيرا ما تستخدم الجزئيات بما بينها من نسب، ولكنها لا تدركها بما هي مجردات كليات ، بل يقتصر إدراكها على ما يبدو منها للحواس في الواقع؛ وهذا التمييز لا يعلمه الحسيون؛ لأنهم لا يعلمون الفرق بين المعنى والصورة، أي: بين المجرد والمشخص.
فإذا أرادوا شرح الحكم قالوا: إنه تقارن إحساسين أو صورتين، وفسروا هذا التقارن بتداعي حدوده تداعيا آليا. وليس هذا بصحيح، فإن المحمول في الحكم هو دائما صفة عامة أو معنى مجرد، وكذلك حال الموضوع في الأحكام العلمية حيث هو أيضا معنى مجرد شامل لجميع أفراده؛ ثم إن بين حدي الحكم «نسبة» ليست هي نسبة التقارن، وليس يكشف عنها التقارن ذاته، فإن محض تقارن صورتين أو لحوق إحداهما للأخرى، لا يبين عن سبب ما لتركيبهما العقلي المعبر عنه بالحكم. أعني عن النسبة التي إنما إدراكها هو السبب في إصدار الحكم؛ والسبب في التصديق به عند كل من يدركها.
والاستدلال في عرفهم استنتاج جزئي من جزئي بوساطة التشابه بين الاثنين، فما هو إلا استدعاء صورة لأخرى استدعاء تلقائيا، كالنار المحسوسة أو المتخيلة الآن، والحرق الذي حدث عن نار مثلها في السابق. هذه النظرية تغفل العنصر الرئيسي في الاستدلال، وهو «لزوم» التالي من المقدم وإدراك النسبة الجوهرية القائمة بين حدود الاستدلال، والنسبة العرضية القائمة بين حدود التداعي، وهاتان النسبتان واضحتان في المثال المذكور الآن، فإنه يزيد على التداعي بالتقارن رباطا بين النار كعلة والحرق كمعلول، والعقل يدرك هذا الرباط، ويفرق بينه وبين الآخر.
في هذه الأفعال الثلاثة تنحصر المعرفة العقلية. وإذا اعتبرنا عدد الجاحدين لقيمتها المنازعين في أصالتها بالنسبة إلى الإحساس والتخيل - فقد نقول إنها دقيقة على الفهم عصية على الاستساغة؛ ولكن لها آثارا واضحة غاية الوضوح متعلقة بها كل التعلق، فإما أن نجد أيضا قيمة هذه الآثار وأصالتها، أو نسلم بها وبالأفعال التي هي أصولها. وفي الواقع، أول ما نرتبها ترتيبا منطقيا؛ نجد فكرة العلم متقومة بها غير مستغنية عنها. فقد قلنا إن المحمول في أي قضية هو معنى مجرد، وإن هذا شأن الموضوع في كل قضية علمية، أي كلية ضرورية، وقديما اتفق الفلاسفة على أن العلم هو بالكلي لا بالجزئي، مع الاختلاف الشديد على طبيعة الكلي وطريقة الحصول عليه؛ فإذا لم يكن لدينا معان مجردة فاتنا العلم لفوات المعنى المجرد دون رجعة من حيث إن التجريد أصل الكلية والضرورة، فإن المعنى كلي من جراء تجرده عن التخصص بالمادة وعلائقها، وهو ضروري لعين السبب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن الحكم أو القانون العلمي، إيقاع نسبة بين حدين، وليست النسبة محسوسة، فإذا لم تكن مفعولة لم نستطع تركيب الحكم ولا الحصول على قانون علمي. ومن جهة ثالثة نجد العلم يستخدم القياس، فينزل من كلي إلى آخر مساو له أو أقل منه كلية أو إلى جزئي؛ فالكلي أصله وعليه اعتماده. ومن جهة رابعة نجد العلم يستخدم الاستقراء، فيصعد من الجزئي غير المفيد إلى الكلي المفيد، فالاستقراء أيضا أصل القوانين وعمادها، ويبقى على الحسيين أن يفسروا اكتسابنا لقانون كلي ضروري، وليست التجربة كلية ولا ضرورية ولا مبررة للانتقال من البعض إلى الكل. فإذا كان العلم يوفر لنا سلطانا على الطبيعة، فنستغل قوانينها في أشكال جديدة، فما ذلك إلا لأن العقل ينفذ إلى ماهيات الأشياء، ويدرك ما بينها من نسب جوهرية.
وإلى المعنى المجرد الكلي ترجع الأخلاق، فإنها تختلف بالمرة عن ملاحظة المنفعة والضرر الماديتين؛ وكثيرا ما يطلب باسمها من الإنسان، أو يطلب الإنسان من نفسه، تحمل ضرر مادي، أو التضحية بمنفعة مادية في سبيل مثل أعلى وكمال روحي. إنها قائمة على معاني الخير والحلال والواجب والمسئولية، وكلها تعني ما حقه أن يكون في مقابله ما هو كائن أو ممكن من لذة وشهوة ونفع وقوة غاشمة. فإذا كان الإنسان خلقيا، فما ذلك إلا لأنه عاقل. وإذا كانت الأخلاق القويمة تفلح في حياة الفرد وحياة الجماعة، مع ما بينها وبين شئون البدن من تضاد، فذلك هو الدليل على أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أصيلة تستطيع التسامي على الماديات واللحاق بالعالم الروحي.
وماذا نقول عن الدين، وهو ملازم للإنسان في كل عصر وكل بيئة حتى لقد قيل: إن الحد الحقيقي للإنسان أنه حيوان متدين؟ قوام الدين الاعتقاد بقوة أو قوى غير منظورة، أكمل وأقدر من الإنسان، فيتوق إلى التشبه بكمالها خائفا إغضابها، مبديا نحوها احتراما وثقة ومحبة وأملا في حياة مقبلة دائمة. أما أصل الدين، فالآراء فيه مختلفة: يرى البعض أنه ميل إلى تأليه كبريات القوى الطبيعية، وبعض أنه ميل إلى تكريم الأسلاف أو الأبطال، وبعض إلى تقديس الجماعة التي بفضلها يكتسب الفرد كل قيمته المادية والمعنوية. والحقيقة أنه ناشئ مما للعقل الإنساني من يقين طبيعي بأن العالم لم يصنع نفسه وأنه لا يدبر نفسه، وإنما هو صنع موجود كلي القدرة، فإذا كان الإنسان متدينا؛ فما ذلك إلا لأنه ناطق، مدرك لمبدأ العلية، مجاوز للعالم الذي تقع عليه الحواس إلى عالم إن لم يره فهو يؤمن به.
والفن يقوم على المعنى المجرد: فإن الصنوع الفني شيء مبتكر مؤلف من صور شتى، والابتكار مجاوزة للموجود بالفعل، أي إنه معنى، والتأليف تجميع حول معنى هو القطب والمحور، يختار له العقل الصور والأوضاع الملائمة، فهو «نسبة» بين الأجزاء بعضها والبعض، ونسبة بين الأجزاء والكل. فالمبتكرات الفنية تختلف اختلافا جوهريا عن تأليفات التداعي في اليقظة والمنام.
والنسبة هي المحور في كل فن، في العمارة والتصوير والموسيقى، وإذا رأينا الحيوان يطرب للأنغام، فطربه حسي ناشئ من وقعها؛ أما إذا وضعناه أمام مبنى جميل أو صورة جميلة، فإنه لا يفقه لهما معنى لخفاء المعنى والنسبة على إدراكه.
واللغة آية من آيات العقل؛ إنها مجموعة إشارات دالة على حالاتنا الوجدانية. وهي على نوعين: أولهما تلك التي تصدر عفوا عن الانفعال اللاذ أو المؤلم، وتصاحبه كأنها مظهره الجسماني، مثل التأوه والبكاء والصياح فرحا أو غضبا أو ألما، وهي عامة للحيوان والإنسان يصدرانها دون قصد آخر. ولها ثلاث درجات: الدرجة الأولى أو الدنيا هي هذه. والدرجة الثانية هي أيضا، لكن مع استخدامها بقصد الدلالة، كأصوات الحيوان طلبا للقوت أو لغيره، وكإشارات الصم البكم ترجمة عن مرادهم. والدرجة الثالثة دلالتها على معان بوساطة حركات رامزة لها. وأبلغ منها دلالة على المعاني إشارات النوع الثاني، تلك الألفاظ أو الأصوات الوضعية العرفية المختلفة باختلاف العصور والشعوب، فإنها أغزر مادة وأدق تعبيرا عن الأفكار مهما تجردت؛ نقيدها بالكتابة فنكفل لها الدوام بعض الوقت ونبلغها للغير على بعد المكان والزمان. بدأت الكتابة تصويرية ترسم صورا إما مشابهة أو رمزية، مفهومة للجميع؛ ثم صارت صوتية ترسم الألفاظ أنفسها. وإذا كان آدم قد تلقى الأسماء والعلم من الله، فليس يبطل هذا كفاية الإنسان لاكتسابهما بنفسه، فإن قوام اللغة إدراك معنى الدلالة، أي النسبة بين الدال أو الإشارة، وبين المدلول أو المشار إليه. واللفظ مرآة للفكر، فهو لاحق عليه طبعا، فلا لغة حيث لا فكر، كما هو الحال عند الحيوان.
Page inconnue