2 - و سمعت محمد بن الحسن البغدادي ، يقول : سمعت علي بن محمد ابن أحمد المصري ، يقول : سمعت أحمد بن عيسى الخراز ، قال : حدثني غير واحد من أصحابنا ، منهم : سعيد بن جعفر الوراق ، و هرون الأدمي ، و عثمان التمار ، قالوا : حدثنا عثمان بن عمارة ، قال : حدثني إبرهيم بن أدهم ، عن رجل من أهل اسكندرية ، يقال له اسلم بن يزيد الجهني ؛ قال : لقيته بالأسكندرية ، فقال لي : من أنت يا غلام ؟ . قلت : شاب من أهل خراسان . قال : ما حملك على الخروج من الدنيا ؟ . قلت : زهدا فيها ، و رجاء لثواب الله تعالى . فقال : إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى ، حتى يحمل نفسه على الصبر . فقال رجل ، ممن كان معه : و أي شيء الصبر ؟ . فقال : إن أدنى منازل الصبر ، أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس . قال ؛ قلت : ثم مه ؟ . قال : إذا كان محتملا للمكاره ، أورث الله قلبه نورا . قلت : و ما ذلك النور ؟ . قال : سراج يكون في قلبه ، يفرق به بين الحق و الباطل ، و الناسخ ، و المتشابه . قلت : هذه صفة أولياء رب العالمين . قال : أستغفر الله ! . صدق عيسى بن مريم ، عليه السلام ، حين قال : لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها ، فتضيعوها ؛ ولا تمنعوها أهلها ، فتظلموها . فبصبصت إليه ، و طلبت إليه ، و طلب معي أصحابه إليه . فقال عند ذلك : يا غلام ! . إياك - إذا صحبت الأخيار ، أو حادثت الأبرار - أن تغضبهم عليك ؛ فإن الله يغضب لغضبهم ، و يرضى لرضاهم . و ذلك أن الحكماء هم العلماء ؛ و هم الراضون عن الله عز وجل ، إذا سخط الناس ؛ و هم جلساء الله غدا ، بعد النبيين و الصديقين . يا غلام ! احفظ عنى واعقل . واحتمل ولا تعجل . فإن التأني معه الحلم والحياء ، وان السفه معه الخرق والشؤم . قال : فسالت عيناى ، وقلت : والله ! ما حملني على مفارقة أبوي ، والخروج من مالى ، إلا حب الأثرة لله . ومع ذلك ، الزهد في الدنيا ، والرغبة في جوار الله تعالى . فقال : إياك والبخل ! قلت : ما البخل ؟ . فقال : أما البخل - عند أهل الدنيا - فهو ان يكون الرجل بخيلا بماله . وأما الذي عند أهل الآخرة ، فهو الذي يبخل بنفسه عن الله تعالى . ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله ، أورث قلبه الهدى والتقى ؛ وأعطى السكينة والوقار ، والعلم الراجح ، والعقل الكامل . ومع ذلك تفتح له أبواب السماء ، فهو ينظر إلى أبوابها بقلبه كيف تفتح ، وإن كان في طريق الدنيا مطروحا . فقال له رجل من أصحابه : اضربه فأوجعه ، فإنا نراه غلاما قد وفق لولاية الله تعالى . قال : فتعجب الشيخ من قول أصحابه : قد وفق لولاية الله تعالى . فقال لى : يا غلام ! أما إنك ستصحب الخيار ؛ فكن لهم أرضا يطأون عليك ؛ وإن ضربوك ، وشتموك ، وطردوك ، وأسمعوك القبيح . فإذا فعلوا بك ذلك ، ففكر في نفسك : من أين أتيت ؟ . فإنك إذا فعلت ذلك ، يؤيدك الله بنصره ؛ ويقبل بقلوبهم عليك . واعلم ان العبد إذا قلاه الخيار ، واجتنب صحبته الورعون ، وأبغضه الزاهدون ؛ فإن ذلك استعتاب من الله تعالى ، لكي بعتبه ؛ قلبه الضلالة ، مع حرمان الرزق ، وجفاء من الأهل ، ومقت من الملائكة ، وإعراض من الرسل بوجوههم . ثم لم يبال في أى واد يهلكه . قال ، قلت : إني صحبت - وأنا ماش بين الكوفة ومكة - رجلا . فرأيته - إذا أمسى - يصلى ركعتين ، فيهما تجاوز ؛ ثم يتكلم بكلام خفي ، بينه وبين نفسه ؛ فإذا جفنة من ثريد عن يمينه ، وكوز من ماء ؛ فكان يأكل ويطعمني . قال : فبكى الشيخ عند ذلك ، وبكى من حوله ، ثم قال : يا أبي ! - أو : يا أخي - ذاك أخي داود . ومسكنه من وراء بلخ ، بقرية يقال لها : ' الباردة الطيبة ' . وذلك أن البقاع تفاخرت بكينونة داود فيها . يا غلام ! ما قال لك ؟ وما علمك ؟ قال : قلت : علمني ' اسم الله الأعظم ' . فسأل الشيخ : ما هو ؟ . فقلت : إنه يتعاظم على ان انطق به . فإني سألت به مرة ، فإذا برجل آخذ بحجزنى ؛ وقال : سل تعطه . فراعني ؛ فقال : لا روع عليك ! أنا أخوك الخضر . إن أخي داود علمك إياه . فإياك أن تدعو به إلا في بر ! . ثم قال : يا غلام ! إن الزاهدين في الدنيا ، قد اتخذوا الرضا عن الله لباسا ، وحبه دثارا ، والأثرة له شعارا . فتفضل الله - تعالى - عليهم ، ليس كتفضله على غيرهم . ثم ذهب عنى . فتعجب الشيخ من قولي . ثم قال : إن الله سيبلغ بمن كان في مثالك ، ومن تبعك من المهتدين . ثم قال : يا غلام ! أنا قد أفدناك ومهدناك ، وعلمناك علما . ثم قال بعضهم : لا تطمع في السهر مع الشبع ، و لا تطمع في الحزن مع كثرة النوم ، و لا تطمع في الخوف لله مع الرغبة في الدنيا ؛ و لا تطمع في الأنس بالله مع الأنس بالمخلوقين ؛ و لا تطمع في إلهام الحكمة مع ترك التقوى ؛ و لا تطمع في الصحة في أمورك مع موافقة الظلمة ؛ و لا تطمع في حب الله مع محبة المال و الشرف ؛ و لا تطمع في لين القلب مع الجفاء لليتيم و الارملة و المسكين ؛ و لا تطمع في الرقة مع فضول الكلام ؛ و لا تطمع في رحمة الله مع ترك الرحمة للمخلوقين ؛ و لا تطمع في الرشد مع ترك مجالسة العلماء ؛ و لا تطمع في الحب لله مع حب المدحة ؛ و لا تطمع في الورع مع الحرص في الدنيا ؛ و لا تطمع في الرضا و القناعة مع قلة الورع . ثم قال بعضهم : يا إلهنا ! احجبه عنا ، و احجبنا عنه ! . قالإبرهيم : فما أدري أين ذهبوا .
Page 40