سَقَاهُ إلهُ الخَلْق في الخُلْدِ شَرْبةً ... بكأسٍ من الكافُورِ كان مِزاجُهَا
وقال عبد الله بن صهيب الكلبي: كان أبو حنيفة يتمثل كثيرًا بهذين البيتين، وهما:
عَطاء العَرْشِ خيرٌ من عطائِكمُ ... وسَيْبُهُ واسِعٌ يُرْجَى ويُنتظَرُ
أنتم يُكدِّرُ مَا تُعْطُونَ مَنُّكُمُ ... والله يُعْطي فلا مَنٌ ولا كَدَرُ
هذا، وما قيل في حق الإمام من المديح، وما رُثي به، وما مدح به، وما تمثل به هو، أو تمثل به الغير عند ذكره، فأمر لا يدخل كما قلنا تحت الحَصر، وفيما ذكرناه منه كفاية، والله تعالى أعلم.
فصل
في ذكر بعض ما يؤثر من إجابة الدُعاء عند قبره، وبعض المنامات التي رآها له الصالحون قبل موته، وبعد موته
فمن ذلك ما روي عن الإمام الشافعي، أنه كان يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة ﵁، وأجى إلى قبره كل يوم، وكنت إذا عَرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة، فما تبعد عني حتى تُقضى.
وقال أبو يوسف: رأيت أبا حنيفة في المنام، وهو جالس على إيوان، وحوله أصحابه، فقال: إيتوني بقرطاس ودواة. فقمت من بينهم وأتيته بهما، فجعل يكتب، فقلت: ما تكتب؟ قال: أكتب أصحابي من أهل الجنة.
فقلت: أفلا تكتبني فيهم؟ قال: نعم.
فكتبني في آخرهم.
وعن أبي مُعاذ، قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله، ما تقول في علم أبي حنيفة؟ فقال: ذلك علم يحتاج إليه الناس عند الحُكم.
وعن بعضهم، قال: كنتُ في حلقة مُقاتل بن سليمان، إمام أهل التفسير في زمانه، فقام إليه رجل، فقال: يا أبا الحسن، رأيت البارحة في المنام كان رجلًا من السماء نزل، ثيابه بيض، وقام على المنارة الفُلانية ببغداد، وهي أطول منارة بها، فنادى: ماذا فقد الناس!! فقال له مقاتل: لئن صدقت رؤياك ليفقدن أعلم الناس.
فأصبحنا فإذا أبو حنيفة قد مات.
وعن ابن بسطام، أنه قال: صحبت أبا حنيفة اثنتي عشرة سنة، فما رأيت أفقه منه، ورأيت ليلة كأن القيامة قد قامت، وإذا أبو حنيفة ومعه لواء وهو واقف، فقلت له: ما بالك واقفًا؟ قال: أنتظر أصحابي، لأذهب معهم.
فوقفت معه فرأيت جماعة عظيمة اجتمعت عليه، ثم مضى ومعه اللواء، ونحن نتبعه.
فأتيته فذكرت ذلك له، فجعل يبكي، ويقول: اللهم اجعل عاقبتنا إلى خير.
وعن أزهر، أنه قال: كنت زاهدًا في علم أبي حنيفة، فرأيت النبي ﷺ، وخلفه رجلان، فقيل لي: المُتقدم هو النبي ﷺ، واللذان خلفه أبو بكر وعمر ﵄.
فقلت لهما: أسأل النبي ﷺ عن شيءٍ؟ فقالا لي: سَل، ولا ترفع صوتك.
فسألته عن علم أبي حنيفة.
فقال: هذا علمٌ انتسخ من علم الحضرة.
وعن السري بن طلحة، قال: رأيت أبا حنيفة في النوم جالسًا في موضع، فقلت ما يجلسك هنا؟ قال: جئت من عند رب العزة ﷾، وقد أنصفني من سفيان الثوري.
وعن مسدد بن عبد الرحمن البصري، قال: نمت بين الركن والمقام، فإذا أنا بآتٍ قد دنا مني، فقال لي: أتنام في هذا المكان، وهو مكان لا يحجب فيه دعاء!.
فانتبهت من نومي، فقمت مبادرًا أدعو الله للمسلمين والمؤمنين إلى أن غلبتني عيناي، فإذا أنا بالنبي ﷺ، فدنا مني، فقلت يا رسول الله، ما تقول في هذا الرجل الذي بالكوفة، يُقال له النعمان، أأخذ من علمه؟ فقال النبي ﷺ: خذ من علمه، واعمل به، فنعم الرجل هو.
فقمت من نومي، فإذا مُنادى صلاة الغداة، ولقد كنت، والله، من أكره الناس للنعمان، وأنا أستغفر الله مما كان مني.
ويُحكى أن أبا حنيفة ﵁، رُثي في المنام على سرير في بستان، ومعه رق عظيم، يكتب جوائز قوم، فسُئل عن ذلك، فقال: إن الله قبل عملي ومذهبي، وشفعني في أصحابي، وأنا أكتب جوائزهم.
ومنامات الصُلحاء والأولياء، التي رؤيت له في مثل ذلك كثيرة، وهذا اليسير منها كافٍ لمن بصره الله تعالى، ولم ينظر بعين الحمية، وقوة العصبية.
نبذ يسيرة من مناقب الإمام وفضائله،
وما يؤثر عن من المحاسن، وحسن الاعتقاد
1 / 46