وقد يرد أيضًا الخبر من طرق كثيرة، فيقتصر صاحب المذهب منه على أصح الطرق، فيرويه منها، وربما أفتى بحكمه ولم يروه. وأصحاب الحديث يروونه من جميع طرقه، فلهذا قلت الرواية عن الفقهاء أولى المقالات.
قال أبو بكر عتيق بن داود اليماني: فإن قال قائل: قد روى عن النبي ﷺ أنه قال: " بلغوا عني ولو آية "، وقال ﵊: " نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ". قيل له: إذا أفتى بما قال النبي ﷺ، أو بما فعل، فقد بلغ أشد التبليغ؛ لأن صاحب المقالة والمذهب، يلزمه أن لا يرةى جميع الأخبار المُتنافية، لأن ذلك يؤدي إلى تحير من يستفتي، ولا يحصل له التخلص مما نزل به من الحادثة، فإذا أفتاه بالصحيح عنده، أو رواه، حصلت للمُستفتي الفائدة، وفي هذا كفاية لكل ذي بصر.
فهذا يدل على أن قلة الرواية عنه، لا تدل على قلة ما نقله من الأخبار والآثار، عن النبي ﷺ. انتهى.
هذا، ولئن سُلم ما زعمه المُشنع من قلة الرواية، فجوابه أنا نقول: قال أبو عمر بن عبد البر: الذي عليه جماعة " فهاء " المسلمين وعُلمائهم ذم الإكثار - يعني من الحديث - دون تفقه ولا تدبر، فالمكثر لا يأمن من مواقعة الكذب على رسول الله، ﷺ.
ثم روى بسنده، عن قتادة، أنه قال: قال رسول الله ﷺ: " إياكم وكثرة الحديث، ومن قال عني فلا يقولن إلا حقًا ".
وروى بسنده أيضًا، عن وهب بن بقية، قال: سمعت خالد بن عبد الله، يقول: سمعت ابن شبرمة، يقول: أقلل الرواية نفقة.
وقال أيضًا: أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عَصرنا " اليوم "، دون نفقة فيه، ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم.
ثم ذكر بعد كلام طويل، قول الأعمش لأبي يوسف: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.
ومن ها هنا قال الترمذي: إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلاني.
وعن ابن المبارك، أنه قال: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث.
ولله در بعضهم حيث يقول:
إن الرُواةَ على جَهْلٍ بما حَملوُا ... مثلُ الجِمَال عليها يُحْمَل الوَدَعُ
لا الوَدْعُ يَنفْعهُ حَمْلُ الجمالِ له ... ولا الجمالُ بِحَمْل الوَدْع تنتفعُ
وقال ابن أبي ليلى: لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويَدَع.
وم التشنيعات أيضًا، قولهم: إن مذهب أبي حنيفة في موضوعه مُخالف لما عليه أساس الإمارة والإمامة، ولا يوافق في كثير من فروعه للأمراء والأئمة.
والجواب عن ذلك هو المنع، بل مذهبه أوفق للإمامة والإمارة، والأصلح للولاة والأئمة.
والدليل على ذلك، ما ذكرناه سابقًا من الجواب عنه لأبي جعفر المنصور في مسألة الاستثناء المُنفصل، وخلافه فيه لابن عباس؛ فإنه أوفق للإمامة والإمارة، بخلاف مذهب غيره.
وكان بعض السلف يقول: لا يزال الإسلام مُشيد الأركان ما بقي له ثلاثة أشياء: الكعبة، والدولة العباسية، والفتيا على مذهب أبي حنيفة. فلولا الموافقة بين الدولة العباسية ومذهب أبي حنيفة ما قرن بينهما.
وقال بعض الشعراء في ذلك:
أبو حنيفةَ فاق الناسَ كُلَّهمُ ... في العِلمِ والزُّهْدِ والعَليَاء والباسِ
له الإمَامَةُ في الدُّنيا مُسلَّمةٌ ... كما الخلافةُ في أولاد عَبَّاسِ
وسماها بعض السلف التوْأمين؛ لاتفاقهما في الموضوع، وظهورهما في زمن واحد.
وكيف يجوز أن يثدعى أن أبا حنيفة على خلاف الإمامة مع ما ذكرناه عنه سابقًا، حين منع من الفتوى، وسألته ابنته عن مسألة فقال لها: سلي أخاك؛ فإن الأمير منعني من الفتيا.
فلم يرض لنفيه أن يعمل بخلاف سلطان زمانه في جواب مسألة.
والذي يدل على صحة ذلك أن من صفة الإمامة أن يكون الإمام غالبًا، قاهرًا، نافذ الأمر، جائز التصرف في مملكته، مُطلق اليد في الرعية، وعلى مذهب أبي حنيفة كل هذا مفوض إلى الأئمة أينما نزلوا، ومذهب المُخالفين ليس على هذه الصفة.
وبيان ذلك في مسائل كثيرة من فروع الفقه، لا بأس بذكر بعضها في هذا الموضوع للإيضاح.
*مسألة، من له أرض خراجية، عجز عن زراعتها، وأداء خَراجها.
1 / 38