قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، ويأمر الأمير بتخليته.
فقال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا. فأمر بتخليتهم أجمعين.
فركب أبو حنيفة، والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه، فقال: يا فتى، هل أضعناك؟ فقال: لا، بل حفظت ورعبت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار، ورعايته.
وتاب الرجل، ولم يعد إلى ما كان عليه، ببركة الإمام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُتقلبه ومثواه، ونفعنا ببركاته، وبركات علومه في الدنيا والآخرة.
فصل
في ذكر ما كان عليه أبو حنيفة من حُسن الاعتقاد ووفور العقل، والفِطنة، والذكاء المفرط، والتلطف في الجواب، وبره لوالديه، ﵁
روى الخطيب بسنده، عن يحيى بن نصر، قال: كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر وعمر، ويحب عليًا وعثمان، وكان يؤمن بالأقدار، ولا يتكلم في القدر، وكان يمسح على الخفين، وكان من أعلم الناس في زمانه وأتقاهم.
وعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو مبتدع، فلا يقولن أحدٌ بقوله، ولا يصلين أحدٌ خلفه.
وروى أن ابن المبارك قدم على أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما هذا الذي دب فيكم؟ قال له: رجل يقال له جهم.
قال: وما يقول؟ قال: يقول القرآن مخلوق.
فقال أبو حنيفة: (كَبُرَتْ كَلِمَةً مِنْ أفوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلاَّ كَذِبًا) .
وكان معلى بن منصور الرازي، يقزل: ما تكلم أبو حنيفة، ولا أبو يوسف، ولا زفر، ولا محمد، ولا أحد من أصحابهم في القرآن، وإنما تكلم بشر المريسي، وابن أبي داود.
وعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط.
قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.
وكان عليُّ بن عاصم، يقول: لو وزن عقل أبي حنيفة بعقل نصف أهل الأرض لرجح بهم.
وقال خارجة بن مصعب: لقيت ألفًا من العلماء فوجدت العاقل فيهم أربعة. فذكر أبا حنيفة في الثلاثة أو الأربعة.
وقال أيضًا: من لا يرى المسح على الخفين، أو يقع في أبي حنيفة، فهو ناقص العقل.
وروى الخطيب في تاريخه "، أنه كان بالكوفة رجل يقول: عُثمان بن عفان كان يهوديًا.
فأتاه أبو حنيفة، فال: أتيتك خاطبًا لأبنتك.
قال: لمن؟
قال: لرجل شريف، غتي من المال، حافظ لكتاب الله، سخي، يقوم الليل في ركعة، كثير البكاء من خوف الله.
قال: في دون هذا مقنع يا أبا حنيفة.
قال: إلا أن فيه خصلة.
قال: وما هي؟ قال: يهودي.
قال: سُبحان الله، تأمرني أن أزوج ابنتي من يهودي.
قال: لا تفعل؟ قال: لا.
قال: فالنبي ﷺ زوج ابنته من يهودي!.
قال: أستغفر الله، فإني تائب إلى الله.
وروى الخطيب أيضًا، بسنده، عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان لنا جار طحان رافضي، وكان له بغلان؛ أحدهما أبو بكر والآخر عمر، فرمحه ذات ليلة أحدهما، فقتله، فأخبر أبو حنيفة، فقال: انظروا البغل الذي رمحه، هو الذي سماه عمر. فنظروا. فكان كذلك.
وقال ابن المبارك: رأيت أبا حنيفة في طريق مكة، وقد شوى لهم فصيل سمين، فاشتهوا أن يأكلوه بخل، فلم يجدوا شيئًا يصبون فيه الخل، فتحيروا فرأيت أبا حنيفة قد حفر في الرمل حفرة، وبسط عليها السفرة، وسكب الخل على ذلك الموضع، فأكلوا الشواء بالخل. فقالوا له: تحسن كل شيء!!.
قال: عليكم بالشكر، هذا شيء ألهمته فضلًا من الله عليكم.
وعن أبي يوسف، قال: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب المنصور، وكان يُعادي أبا حنيفة: يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يُخالف جدك، كان عبد الله بن عباس يقول: إذا حلف اليمين استثنى ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء، إلا متصلًا باليمين.
فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جُندك بيعة.
قال: وكيف؟ قال: يحلفون لكم، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فبطل أيمانهم.
قال: فضحك المنصور، وقال: يا ربيع، لا تعرض لأبي حنيفة.
فلما خرج أبو حنيفة، قال: أردت أن تشيط بدمي؟ قال: لا، ولكنك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك، وخلصت نفسي.
1 / 35