وروى أنه كان شريكًا لحفص بن عبد الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيبًا، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسى أن يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
وروى ايضًا، عن أبي عبد الرحمن المسعودي، عن أبيه، قال: ما رأيت أحسن امانة من أبي حنيفة، مات يوم مات، وعنده ودائع بخمسين ألفًا، ما ضاع منها ولا درهم واحد.
ونقل أن أبا جعفر المنصور أجازه بثلاثين ألف درهم في دفعات، فقال: يا أمير المؤمنين، إني ببغداد غريب، وعندي للناس ودائع، وليس لها عندي موضع، فاجعلها في بيت المال.
فأجابه المنصور إلى ذلك، فدفع إليه الثلاثين ألفًا، ووضعها في بيت المال، فلما مات أبو حنيفة أخرجت ودائع الناس من بيته.
فقال المنصور: خدعنا أبو حنيفة.
وكان رحمه الله تعالى، قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدق به، ثم جعل على نفسه إن حلف أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقًا في عرض كلامه تصدق بدينار.
وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وإذا اكتسى ثوبًا جديدًا أكسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء.
وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز، حتى يأخذ منه بقدر ضعف ما كان يأكل ثم يعطيه لإنسان فقير، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه، دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينًا.
وقال وكيع: كان، والله، أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان الله في قلبه جليلًا كبيرًا عظيمًا، وكان يؤثر رضاء ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل، رحمة الله تعالى، ورضي عنه رضى الأبرار، فلقد كان منهم.
وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدًا أورع من أبي حنيفة، وقد جرب بالسياط والأموال.
فصل
في بيان ما روى وصح عن أبي حنيفة من إرادتهم إياه على القضاء وامتناعه من قبوله، وضربهم إياه بالسياط على ذلك رحمه الله تعالى
روى الخطيب بسنده، أن ابن هبيرة كلم أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة، فأبى عليه، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلى سبيله. وكان ابن هبيرة إذ ذاك عامل مروان على العراق، في زمان بني أمية.
وروى الخطيب أيضًا، أنه كان يخرجه كل يوم، أو بين الأيام، فيضرب، ليدخل في القضاء، فيأبى.
ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق، قال: كان غم والدتي أشد عليَّ من الضرب.
وكان أحمد بن حنبل إذا له ذلك بكى، وترحم عليه، خصوصًا بعد أن ضرب هو أيضًا.
وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، أنه قال: مررت مع أبي بالكناسة، فبكى، فقلت: ما يبكيك يا أبت؟ قال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل.
وروى الخطيب بسنده، عن بشر بن الوليد الكندي، قال: أشخص أبو جعفر المنصور أبا حنيفة من الكوفة، فأراده على أن يوليه القضاء فابى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، فحلف المنصور ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، فقال الربيع الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف.
فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني.
فأبى أن يلي، فأمر به إلى الحبس في الوقت.
وروى أن أبا جعفر المنصور بعد أن حبسه دعاه يومًا، وقال له: أترغب عن ما نحن فيه؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لا أصلح للقضاء.
فقال له: كذبت.
ثم عرض عليه الثانية، فقال أبو حنيفة: قد حكم عليَّ أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء، لأنه نسبني إلى الكذب، فإن كنت كاذبًا فلا أصلح، وإن كنت صادقًا فقد أخبرت أمير المؤمنين أني لا أصلح.
فلم يقبل منه ورده إلى الحبس، فأقام به إلى أن مات فيه، على الصحيح من الروايات.
وحدث عباس الدوري، قال: حدثونا عن المنصور، أنه لما بنى مدينته، ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي، وبنى مسجد الرصافة، أرسل إلى أبي حنيفة، فجيء به، فعرض عليه قضاء الرصافة، فأبى. فقال: إن لم تفعل ضربتك بالسياط.
قال: أوَ تفعل؟! قال: نعم.
فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد، فلما كان في الثالث اتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانيق، ثمن تور صفر.
1 / 33