فأقام بالمدينة عشر سنين. وكان يُصلى إلى بيت المقدس مُدة إقامته بمكة، ولا يستدبر الكعبة يجعلها بين يديه، وصلى إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرًا، أو سنة عشر شهرًا، ولما أكمل في المدينة عشر سنين سوا تُوفي وقد بلغ ثلاثًا وستين سنة، وقيل غير ذلك، وفيما تقدم من التواريخ خلاف، وكانت وفاته يوم الاثنين، حين اشتد الضُّحى، لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ومرض أربعة عشر يومًا، ودفن ليلة الأربعاء.
ولما حضره الموت كان عنده قدح فيه ماء، فجعل يدخل يده فيه ويمسح وجهه ويقول: " اللهم أعني على سكرات الموت ". وَسجي ببرد حبرة. وقيل: إن الملائكة سجته.
وكذب بعض أصحابه بموته دَهشة، يُحكى ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه، وأُرس عُثمان رضي الله تعالى عنه، وأقعد رضي الله تعالى عنه، ولم يكن فيهم أثبت من العباس، وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
ثم إن الناس سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه، فإنه طاهر مُطهر. ثم سمعوا بعد ذلك: اغسلوه؛ فإن هذا إبليس، وأنا الخضر، وعزاهم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، وَدركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، فإن المصاب من حُرم الثواب.
واختلفوا في غسله، هل يكون في ثيابه أو يجرد عنها؟ فوضع الله عليهم النوم، فقال قائل، لا يدري من هو: اغسلوه في ثيابه. فانتبهوا، وفعلوا ذلك.
والذين ولوا غسله عَليٌّ والعباس، ووالده الفضل، وقثم، وأسامة وشقران مَولياه، وحضرهم أوس بن خولي من الأنصار، ونفضه عليّ فلم يخرج منه شيء، فقال: صلى الله عليك وسلم، طِبت حيًا وميتًا.
وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة.
وصلى المسلمون عليه أفذاذًا، ولم يأمُهم أحد.
وفرش تحته في القبر قطيفة حمراء، كان يتغطى بها. ونزل شقران، وحفر له، وألحد وأطبق عليه تسعُ لِبنات.
واختلفوا: أيُلحد، أم يُضرح؟.
وكان بالمدينة حفاران، أحدهما يلحد، وهو أبو طلحة، والآخر يضرح وهو أبو عبيدة، فاتفقوا أن من جاء منهما أولًا عمل عليه، فجاء الذي يلحد، فلحد له. ونُحي فراشه، وحُفر له مكانه في بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها.
وقال الحافظ عبد الغني: حول فراشه.
وكان ابتداء وجعه في بيت عائشة، واشتد أمره في بيت ميمونة، فطلب من نسائه أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، فأذن له في ذلك، وكان ما ابتدأ به من الوجع صُداع، وتمادى به، وكان ينفث في علته شيئًا يشبه أكل الزبيب، ومات بعد أن خيره الله تعالى بين البقاء في الدنيا ولقاء ربه، فاختار لقاء الله تعالى.
ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه سمع بعد وفاة النبي ﷺ يقول، وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب عليه، فلما كثُر الناس اتخذت منبرًا تسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه، فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك، أن جعل طاعتك طاعته، فقال تعالى: (مَن يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاع الله) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أخبرك بالعفو عنك، قبل أن يخبرك بذنبك، فقال: (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعلك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم، فقال تعالى: (وإذْ أخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وإبْراهيمَ ومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون لو يكونوا أطاعوك، بين أطباقها يُعذبون، ويقولون: (يَا لَيْتَنَا أطَعْنا اللهَ وأطَعْنَا الرَّسُولاَ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن كان موسى بن عمران ﵇، أعطاه الله حَجرًا تتفجر منه الأنهار، فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك وسلم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان سُليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فما ذلك بأعجب من البُراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح بالأبطح، صلى الله عليك وسلم.
1 / 16