وأما تاريخ " شيخنا الذهبي " غفر الله له، فإته على حسنه وجمعه، مشحون بالتعصب المُفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء، الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المُجسمة. هذا وهو الحافظ المِدره، والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين.
فالرأي عندنا لا يقبل مدح ولا ذم من المؤرخين، إلا بما اشترطه إمام الأئمة، وحبر الأمة، وهو الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى، حيث قال، ونقلته من خطه في مجاميعه: يُشترط في المؤرخ الصدق، وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى، وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك، وأن يسمي المنقول عنه؛ فهذه شروط أربعة فيما ينقله.
ويُشترط فيه أيضًا لما يُترجمه من عند نفسه، ولما عساه يطول في التراجم من المنقول ويقصر، أن يكون عارفًا بحال صاحب الترجمة، علمًا، ودينًا، وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدًا، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، وأن يكون حسن التصور، حتى يتصور حال ترجمته جميع حال ذلك الشخص، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه، وأن لا يغلبه الهوى، فيخيل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه، والتقصير في غيره، بل يكون مجردًا عن الهوى، وهو عزيز جدًا وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه، ويسلك طريق الإنصاف. فهذه أربعة شروط أخرى، ولك أن تجعلها خمسة؛ لأن حسن تصوره وعلمه، قد لا يحصل معهما الاستحضار حين التصنيف، فتجعل حضور التصور زائدًا على حسن التصور، والعلم. فهذه تسعة شروط في المؤرخ. وأصعبها الاطلاع على حال الشخص في اعلم؛ فإنه يحتاج إلى المشاركة في علمه، والقرب منه حتى يعرف مرتبته. انتهى.
ثم ذكر أن كتابته لهذه الشروط بعد أن وقف على كلام ابن معين في الشافعي، وقول أحمد ابن حنبل: إنه لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول.
قلت: وما أحسن قوله " ولما عساه يطول في التراجم من المنقول، ويقصر " فإنه أشار به إلى فائدة جليلة، يغفل عنها كثيرون؛ ويحترز منها الموفقون، وهي تطويل التراجم وتقصيرها؛ فرب محتاط لنفسه لا يذكر إلا ما وجده منقولًا، ثم يأتي إلى من يُبغضه فينقل جميع ما ذكر من مذامه، ويحذف كثيرًا مما نقل من ممادحه، ويجئ إلى من يُحبه فيعكس الحال فيه، يظن المسكين أنه لم يأت بذنبٍ؛ لأنه ليس يجب عليه تطويل ترجمة أحدٍ ولا استيفاء. ما ذكر من ممادحه، وما يظن المغتر أن تقصيره لترجمته بهذه النية استزراء به، وخيانة لله، ولرسوله ﷺ، وللمؤمنين، في تأدية ما قيل في حقه؛ من مدح وذم، فهو كمن يُذكر بين يديه بعض الناس فيقول: دعونا منه، أو: إنه عجيب، أو: الله يصلحه. فيظن أنه لم يعتبهُ بشئٍ من ذلك، وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة.
ولقد وقفت في " تاريخ الذهبي " على ترجمة الشيخ الموفق ابن قدامة الحنبلي، والشيخ فخر الدين ابن عساكر، وقد أطال تلك، وقصر هذه، وأتى بما لا يشك الثبت أنه لم يحمله على ذلك إلا أن هذا أشعري، وذلك حنبلي، وسيقفون بين يدي رب العالمين.
وكذلك ما أحسن قول الشيخ الإمام: " وأن لا يغلبه الهوى "؛ فإن الهوى غلاب إلا من عصمه الله تعالى.
وقوله: " فإما أن يتجرد عن الهوى، أو يكون عنده العدل ما يقهر به هواه " عندنا فيه زيادة، فنقول: قد لا يتجرد من الهوى، ولكنه لا يظنه هوى، بل يظنه لجهله، أو لبدعته حقًا؛ ولذلك لا يتطلب ما يقهر به هواه؛ لأن المستقر في ذهنه أن محق، وهذا كما يفعل كثير من المتخالفين في العقائد بعضهم في بعض، فلا ينبغي أن يقبل قول مُخالف في العقيدة على الإطلاق، إلا أن يكون ثقة، وقد روى شيئًا مضبوطًا عاينه أو حققه.
وقولنا: " مضبوطًا " احترزنا به عن رواية مالا ينضبط، من الترهات التي لا يترتب عليها عند التأمل والتحقق شيء.
وقولنا: " عاينه أو حققه " ليخرج ما يرويه عن من غلا أو رخص ترويجًا لعقيدته.
1 / 10