وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: قرأت على أبي بكر محمد بن موسى الخوارزمي، عن أبي عبد الله محمد بن المعلا الأزدي، قال: قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، يرثي الشافعي، ﵁:
بملتفتيه للمشيب طوالع ... ذوائد عن ورد التصابي روادع
تصرفه طوع العنان وربما ... دعاه الصبا فاقتاده فهو طائع
ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع
هل النافر المذعور للحظ راجع ... أم النصح مقبول أم الوعظ نافع
أم الهمك المهموم بالجمع عالم ... بأن الذي يوعى من المال ضائع
وإن قصاراه على فرط ظنه ... فراق الذي أضحى له وهو جامع
ويخمل ذكر المرء ذي المال بعده ... ولكن جمع العلم للمرء رافع
ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع
معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي فوارع
مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع
ظواهرها حكم ومستنبطاتها ... لما حكم التفريق فيه جوامع
لرأي ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع
إذا المفظعات المشكلات تتابعت ... سما منه نور في دجاهن لامع
أبى الله إلا رفعه وعلوه ... وليس لما يعليه ذو العرش واضع
توخى الهدى فاستنقذته يد التقى ... من الزيغ إن الزيغ للمرء صارع
ولاذ بآثار الرسول فحكمه ... لحكم رسول الله في الناس تابع
وعول في أحكامه وقضائه ... على ما قضى في الوحي والحق ناصع
بطئ عن الرأي المخوف التباسه ... إليه إذا لم يخش لبسا يسارع
جرت لبحور العلم أمداد فكره ... لها مدد في العالمين ينابع
وأنشأ له منشيه من خير معدن ... خلائق هن الباهرات البوارع
تسربل بالتقوى وليدا وناشئا ... وخص بلب الكهل مذ هو يافع
وهذب حتى لم تشر بفضيلة ... إذا التمست إلا إليه الأصابع
فمن يك علم الشافعي إمامه ... فمرتعه في باحة العلم واسع
سلام على قبر تضمن جسمه ... وجادت عليه المدجنات الهوامع
لقد غيبت أثراؤه جسم ماجد ... جليل إذا التفت عليه المجامع
لئن فجعتنا الحادثات بشخصه ... لهن لما حكمن فيه فواجع
فأحكامه فينا بدور زواهر ... وآثاره فينا نجوم طوالع
ولابن دريد فيه قصيدة أخرى، نونية جيدة المطلع، قوية المنزع، روية المشرع، مدحه فيها فأبدع، وجرى في مضمار فضائله فأسرع، والله يغفر له، ويسامحه.
وهذه نبذة مختصرة، من فضائل الشافعي، ﵀، وشمائله، ولو تقصينا أخباره مبسوطة، لطال الكتاب، ولكنا اقتصرنا على هذا القدر، إذ فيه مقنع لذوي الألباب.
وقد جمع الناس ترجمة الشافعي قديما وحديثا، فأول من نعرف جمعها: داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري، ثم أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وزكريا بن يحيى الساجي، والدارقطني، وأبو علي الحسن بن الحسين الهمداني، المعروف بابن حكمان، وهو ضعيف، وفيما ينقله نكارة، ولا يكاد يخلو ما يرويه عن غرابة ونكارة، وأبو الحسين الرازي والد تمام، والحاكم النيسابوري، وأبو الحسين محمد بن الحسين بن إبراهيم الآبري السجستاني، والحافظ أبو بكر البيهقي، والحافظ أبو القاسم ابن عساكر، في تاريخه، ذكر ترجمة بليغة أطنب فيها، وأكثر، وأطيب، وذكر أشياء من ترجمة أبي علي بن
حمكان، وأشياء من رحلة الشافعي لعبد الله بن محمد البلوي، وهو كذابٌ وَضَّاعٌ، وقد أعرضت في هذه الترجمة عن كثير من ذلك، وذكرت مقاصد ما ذكره هؤلاء الأئمة، مما هو صحيح، أو قريب منه، ولا يخفي ذلك على أولى العلم.
وكذلك جمع ترجمة الإمام الشافعي: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، أستاذ المتكلمين في زمانه، في مجلد وأطال العبارة فيها، ولكنه اعتمد على منقولات كثيرة مكذوبة، لا نقد عنده في ذلك، فلهذا كثر فيها الغرائب والمنكرات من حيث النقل.
والله تعالي هو الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، العلي العظيم: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١]، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠] .
فصل
وقد وقع لي حديث عزيز عظيم، من رواية الإمام الشافعي، ﵁، فيه بشارة عظيمة، لعموم المؤمنين، ولا سيما للأبرار والمقربين، أحببت أن أسوقه بسندي إلى سيد المرسلين، ﷺ.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ شَيْخُنَا الإِمَامُ الْحَافِظُ، أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ ابْنُ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ الْمِزِّيُّ، ﵀، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَالْمُسْلِمُ بْنُ عَلانَ، قَالا: أنا حَنْبَلُ ابْنُ الرُّصَافِيِّ الْمُكَبِّرُ، وَأنا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ،
ثنا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثنا أَبِي، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»، وهكذا رواه النسائي، من حديث مالك، والترمذي، وابن ماجه من حديث الزهري به، وقال الترمذي: حسن صحيح، قلت: وهذا فرد من الأفراد اجتمع في سنده
ثلاثة من الأئمة الأربعة وهذا عزيز جدا، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن الشافعي أحاديث أخر غير هذا، بل قد روى عن رجل عنه
وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، ثنا الشَّافِعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ﵄، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، صَلَّى صَلاةَ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وهذا على شرط الصحيح ولم يخرجوه، ومما استغرب من رواية الشافعي، ﵁، ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي
أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْجُرَشِيُّ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ، ثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثنا الشَّافِعِيُّ، ثنا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ﵁، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا»، ثم قال الخطيب: لا أعلم أحدا رواه عن الشافعي إن لم يكن الربيع وهمَ فيه، لأن هذا الحديث في الموطأ عن مالك، ﵁، عن الزهري، عن
سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
قلت: وهكذا أخرجه مسلم في صحيحه عن يحيى، والنسائي عن قتيبة، والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى القزاز كلهم، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي، ﷺ، به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: تفرد به كذلك الربيع، عن الشافعي، وقد رواه المزني، والزعفراني، وحرملة، عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، فقيل: إنه وهمَ فيه الربيع، وقيل: بل هو محفوظ عن مالك
فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم الثقة المأمون، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا روح بن عبادة، ثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ﵁، عن رسول الله، ﷺ، قال: «فضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمسة وعشرين جزءا»
1 / 47