اليوم تكتشف القومية الاجتماعية حقيقة أمر من حالفها يوم كان في حاجة إلى أبنائها، وشن عليها الحرب الكلامية لغير سبب وفي غير مناسبة، وفيما هو يحاول تهديمها هدم نفسه بسرعة وبصورة نهائية.
نحن لا نفرح برؤية هذا الخراب، بل نأمل نحن الذين ساعدنا من أراد خصومتنا أن يكشف عن نفسه، أن يتعظ بمصابه فيجد نفسه - أخيرا.
إذ ذاك نكون قد مددنا له يد المعونة مرتين: مرة حين تهدم فاكتشفت حقيقته، ومرة حين وقف على أطلال أمجاده فلم يشتم، ولم يتهم، ولم يفتر، بل كرجل ثاب إلى رشده وتاب عن ذنب، أنقذ من الدمار شيئا يثير الاحترام.
أضف إلى فضائل القومية الاجتماعية أنها لا تخيب آمال من اعتنقها ولا تخون.
طريق ضهر البيدر وطريق مرجعيون
من عادة أهل الكتابة أن يظفروا بالأكل مجانا، حين يحسب المضيف أن في كرمه حافزا للإعلان عن متجره، وقد يكون من نتائج هذا المقال أن ينقطع أصحاب المطاعم والفنادق عن هذه الحاتمية، أو الرشوة؛ فهذه الأسطر لا تروج للإقامة، في فندق «المسابكي» شتورة، حيث أكلت وشربت مرارا عدة، وكل مرة كنت أدفع بكلمة شكر أوجهها إلى الخواجة، صاحب الفندق بواسطة الجرسون، الذي ينقل إلي الرسالة السخية.
ووصلنا «شتورة» في عاصفة من الثلج، راجعين إلى بيروت، فاستقبلتنا على الطريق بارودة الدركي، وقهقهته وأوامره معلنة أن الطريق مقفلة، وأنه من «الحكمة» أن نبقى في شتورة.
لا أدري لماذا قهقه الدركي، قد يكون ذلك من قبيل فرحه بمصيبتنا، لعل أول تسجيل في نفس الإنسان حين يسمع بموت صديق له هو فرحه، بأن الموت نزل بصديقه لا به، ترى ألهذا السبب ضحك الدركي؟
ودخلنا الفندق، يعني اللوكندة؛ فإذا هو حافل بالضيوف، وحافل باللاجئين، لو سئلت تسمية هذا العصر، لقلت: إنه عصر التندر والطرائف؛ فكل من تلقاه، يمد يده إلى جعبته، فيتناول منها قصصا يرويك بها، وكان من الطبيعي، والدنيا ثلوج وأرياح وأمطار، أن تنحرف الذكريات إلى منحى الطبيعة، وكانت القصة طبعا تنتهي ببطولة راويها. أذكر أن أحد اللاجئين إلى الفندق قص علينا كيف كان يقطع الثلوج في ضهر البيدر ذات شتاء، فهاجمه قطيعان من الذئاب: واحد من اليمين وآخر من اليسار، فراح محدثنا البطل يقبض على ذنب الذئب المهاجم من اليمين، فيرمي به الذئب المهاجم من اليسار فيصرع الاثنين معا.
وقبعنا في الفندق والثلوج والأقاصيص تتراكم، والأرياح تهب، وكذلك دخان الأراكيل، وكان الثلج يتعالى في ضهر البيدر عند دخول كل «لاجئ» جديد، والنكبات تزداد كلما جاء من يطلب الدفء والأمن في قاعات اللوكندة؛ حتى حسبنا أن في الخروج خطوة من الفندق مقامرة وغمارا.
Page inconnue